محاكاة العمق وضلال اللغة

محاكاة العمق وضلال اللغة
آخر تحديث:

مهند الخيكاني 

 ما المعايير أو المقاييس التي من خلالها يتم حساب الحد الأدنى والحد الأعلى للغة؟، وكيف ينظر بعض الكتّاب على مختلف تصانيفهم الى مفهوم اللغة العالية؟ وكيف يؤثر هكذا فهم على النصوص الشعرية؟. صراحةً، لا يفترض باللغة العالية، أن تصبح لغةً غير مفهومة حتى تحقق شرط الارتقاء، كاللغة المفهومية، كما لا يشترط علوّها ألا تكون مشاعةً أو مستخدمةً بكثرة في شجرة الكتابة العملاقة على اختلاف غصونها، إذ إن اللغة العالية: هي اللغة المنتقاة بدقة وعناية ولها جمالها الذي يحقق المعنى والاتساق ويفرش جسد الرؤيا بسلاسة، تخلو من التوعر والتقعير. طبعا اللغة العالية المقصودة هنا، ليست المقصودة من الناحية الاصطلاحية، إنما الفهم المستحدث عنها الذي سيتضح لاحقا. 

هناك فرق شاسع بين استخدام مفردات غير مستهلكة وجميلة وهو أمر محبّب، يدفع القارئ ليقول عنها: لغة عالية، وبين اعتبار اللغة المشاعة لكونها مشاعة فقط ومستخدمة بكثرة هي: لغة أدنى. وعلى ذلك فإنّ الحكم على اللغة بكونها عالية أو غير ذلك وفق هذه المعايير، يعتمد على كونها مستهلكة ومكررة لا أكثر. وهذا ليس حكمًا موفقا على اللغة، فربما تصبح اللغة العالية بعد أن تستخدم بكثرة وفق المفهوم الذي تعتقد به هذه الجماعة أو تلك، لغة مستهلكة أيضا، فهل يجب علينا وصفها بكونها تقع في الحدود الدنيا للغة؟، ثم إذا اتخذنا مثل هذا القياس طريقة للحكم على النصوص الشعريّة، ألا تعد مسوّغًا لعودة النصوص التي تعاني من فراغ فكري هائل وكثافة في اللغة لا غير؟. 

وعلى هذا القياس أيضا وبرغم تجدّد اللغة عبر مؤثرات ثقافية متواترة ومتراكمة، فإنّ اللغة ستكون بموضع حرج، إذ إننا أمة شعرية حقا، صغيرها وكبيرها يهوى الشعر وبالقليل يحفظ منه؟، ألا يعد هذا استهلاكا عاليًا للغة من جميع نواحيها؟، بهذا التفكير، ستصبح اللغة في يوم ما بأكملها في الحد الأدنى؟. 

إنّ المغالاة التي ينطلق منها البعض في التعاطي مع اللغة، ومعاملتها على أنّها مقدّسة، وهذا ليس انتقاصًا من اللغة ولا من أهميتها، ولكنه تحديد لما هي عليه فعلا وأين تكمن فاعليتها ودورها داخل النص، صيّر التعاطي معها تعاطيًا رومانسيًا صريحًا ومفرطًا حدَّ القداسة، يعاني من خللٍ وفهم مغلوط، أصاب الكثيرين في ما مضى ولا يزال يصيب الكثيرين اليوم، في الوقت الذي يمكن فيه أن نقول: إنّ هناك أداة جميلة وأخرى غير جميلة أو غير مكتملة، خصوصا أن مغالاتهم تنطلق من قناعات محدودة غير تلك التي يتحدث بها الفلاسفة أمثال هيدغر وماكس بيكارد في كتابه عالم الصمت، وتحديدا في فصلي الصمت واللغة، الصمت والشعر. حينما يتحدث عن اللغة الأصيلة البعيدة عن الهذر والضجيج والسطحية. 

 وأصبحت هذه المغالاة الموجودة في كل حقبة شعرية تجاه اللغة تحيلها من كونها حاملة للمعاني والمكنونات الوجدانية إلى اعتبارها النص بذاته وجوهره، بل يعتقد آخرون أن المفردات كيفما تشكّلتْ مكونةً جملةً لا بد لها من إنتاج معنى، ولا يجب أن يكون هدف اللغة الأول إيصال وانتاج المعنى! وهذا ما يجعل نصوصهم مثقلة بكثافة لغوية عالية وزخرفة لفظية لا تكاد تفضي الى شيء مهم.

 ولو تمت مراجعة بعض نصوص هؤلاء الذين يكتبون على هذا المنوال، لوجدنا هناك عينات قليلة من نصوصهم برزت واشتهرت وتناقلها القراء، وعند النظر إليها بتمعّن وقراءة دقيقة، سيلاحظ المتلقي أنها تعتمد لغة حلوة واضحة وفكرة عميقة، وهذا ما جعلها من الأساس تقفز من كل نصوصهم الأخرى المفعمة والثرية بمعجم لغوي هائل لا يقول الكثير!. 

والغريب عندما تطلع على نوعية الكتابات التي يفضلونها وينشرونها ويحفظون بعضها، تجد أنها نصوص تقع في منطقة الرؤيوي العميق المكتوب بلغة خفيفة ورشيقة وحلوة، لا تضطر القارئ الى التشذيب وفكّ الغموض ومن ثم محاولة فهم واستدراك ما يراد لها إصابته. 

إنّ أهم سببٍ من أسباب التعكّز على اللغة هو غياب الرؤية والرؤيا، حياتية كانت أم شعرية، والافتقار الى الوعيّ اللازم من جانب وتأثّر البعض ممن نضجت تجربته على نار سلطة النظام السابق من جانب آخر، وهو الأمر الذي دعاهم الى جعل النصوص مرمّزة يلفظها الغموض، تميل الى الايحاء حدَّ القطيعة ومفتوحة على أبواب التأويل، إلّا أنّ التأويل المفتوح الذي يظنه عدد كبير من النقاد ميزة للنصوص، هو في الحقيقة يقدِّم دليلا على تهرّب الشاعر من الفكرة والقصدية، لذلك يعمد الشاعر من خلال تقانات شهيرة الى تراكيب لغوية، تعتمد الانزياح الى وضع النص داخل منطقة مجازات محيّرة، ذات متناقضات مربكة، حتى لا يكون واضحًا ما يريد قوله، وعادة ما يكون النصُّ خاويًا مما يريد قوله، لكنه يمنح لعبة التأويل والقراءات المتعددة حافزًا لتبرير كل ذلك الخواء. 

قد يكون خيارًا الكتابة بهذه الطريقة وفق قناعات شخصية، إلّا أنّ الشاعر اليوم ليس ملزمًا بهذا الغموض، إذ تتحوّل لغته إلى لغة مفبركة تلتقط الوقائع والأحداث كما في السابق، وإنْ كانت هذه الطريقة في الكتابة متّبعة قديمًا، وتعود الى أيام المدرسة الرمزية وأبرز روّادها الذين تركوا أثرا بالغًا وناجحًا: ادغار آلان بو ومالارميه وريلكه وغيرهم من بقاع الكرة الأرضية. هناك فرق بين توظيف الرمز وبين أن يتحول النص الى متاهات بحجة الرمز والتلميح والإشارة، مثلما هناك فرق بين العمق الشعري ومحاكاة ذلك العمق، والادّعاء بأنّ لغة النص هي لغة عالية. 

في وقتنا الحالي نحن نعيش في ظل تحولات ثقافية، اجتماعية، سياسية دائمة، ويمكن التصريح بكل شيء سواء كنتَ صحافيًا او إعلاميًا أو شاعرًا، فلا يوجد هناك مسوّغ مقنع للكتابة بشكل ضبابي، والاعتماد على إشارات خفية ومبهمة تلوّح وتلمع في هذا الضباب من أجل فهم النصوص، ولذلك أصبح اختبار الشعر في هذه المرحلة المتّسمة بالوضوح والفوضى، مع توافر قدر ملائم من الحريَّة، وسيلة ضغط فاضحة على أولئك الذين اعتادوا التستر والاختباء خلف لعبة المراس الطويل.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *