عبد الجبار الحمدي
رتابة الأيام جعلت منه شخصا منطويا في صومعته، تلك التي ركن إليها يؤلف كتابه الذي طالما كان خائفا من رسم حروفه إلا بالحبر السري بعد أن خزنه في ذاكرته تلك السنين المنقرمة عنوة أظافرها تعذيبا في كتابة أحقية ايامها البغيضة حين دُسترت لتكون بطانة عاش الوالي… قال الوالي مصحوبة بالتهليل حتى بات نسقا يوميا يمجد به الاطفال في الرياض والمدارس والجامعات وحتى الدوائر الرسمية ترديد السلام والعهد للوالي الباقي اطال الله بقاءه…
وبين دوران عجلة وانبطاح جثث، تطايرت الاقنعة وتغيرت الوجوه والقيم كلية، عكفت تلك التي اتت ان تعطي حرية القلم تعبيرا يخط العذابات كما هي بلونها الاحمر و أنين المتعذبين بسياط الجلاد…
الجلاد؟؟؟ هو ذاك ما كان يتوجس منه خيفة حين جلس على احد المقاهي وبيده نسخة من مطبوعه الاول الذي صهر نفسه خلجات ومعاناة ايام بساعات في زنازين مقيتة حدباء عفنة، رمق وهو خير من يميز ذلك الشخص الذي يتحسس خصره بين فينة وأخرى على المسدس الذي كان يحمله كوليد يرغب به، تذكر ان الفزع الذي كان يشعر به قد انتابه مرة ثانية متى ما شعر بخنازير الوالي التي كانت ترقبه كلما تحدث عن أهمية الكلمة ونشر الثقافة وعيا بين شعب تدحرج من علو الى هاوية جحيم عبارات عاش الملك … مات الملك..
قالت نفسه لا أصدق!! أتراني اعيش المرحلة مرتين بإزدواجية، كيف لهذا الخنزير من علم بما احمل بعد ان تغير لون الشعار التي ارتداه الولاة الجدد؟؟؟…. لا عجب!!؟ هز رأسه كأنه يرد عليها ليقول: كلهم سواء دعاة الى السياط والزنازين فما حكم والٍ دون عصبة من ضباع او خنازير فكلهم يعتاشون على الجيف …. ابتسم الى نفسه حين ذكر كلمة الجيف وهمس…. هذا يعني نحن الجيف او الرمم التي سوف تكون القرابين متى ما غرز الولاة مخالبهم فيها لتمزيق وجوه ترى وتشاهد من بعيد ليكونوا لغيرهم عبرة …
رمى بورقة على الطاولة حساب الشاي الذي لم يشربه، غمس نفسه في بحر الزحام الذي كان يزفر موجه بقوة الغرض منه الهروب من دوي انفجار بعيد كان ام قريب، شاعت الفوضى غط في مضيق ودهاليز البيوتات التي نسيها الوقت والتغيير، فكانت شاهد احداث ميتة بعيارات نارية، شظايا طائشة اصيبت بها جراء قصف جوي وحروب شوارع…
وصل الى باب الخان القديم… لكنه مقفل!!! تساءل؟؟! ترى اين انت يا كريم؟ لقد وعدت بأنك ستكون في الخان في العاشرة تماما… وهاهي الساعة قد تجاوزتها بربع آخر لا أدري ماذا أقول؟ ربما ثملت هي الأخرى معي ليلة الامس فترنحت عقاربها ومالت الى الزوال ظنا أننا نعيش وقت الضياع دون حساب زمن…..
لم يشعر إلا ويد على كتفه مصحوبة بصوت نجاح… إني اعتذر عن التأخير لقد كان الزحام شديدا والطرق اغلبها مغلقة بعد الإنفجارات التي حصلت، لقد كان منظرا رغم تكراره مخيف ورهيب، فالشوارع والارصفة وحتى واجهات المحال قد اصطبغت باللون الاحمر والاسود ….
أما فضول المارة فهو الطامة الكبرى التي تسبغ على طرح الكثير من التساؤلات، هل اعتادت الناس ان يكون الموت بينها يعتاش في اي لحظة على من تسقط ورقته قبل ان تتيبس اياما وسنين!!؟ جنون يا نجاح… جنون الواقع الذي نعيش، كم حلمت وإياك بعالم جديد يتأزرنا بخضرة يانعة تطلق للعصافير حرية التغريد بعناوين غير تلك التي كنا نسمع، ونشيدا وطنيا خال من التبعية والربق والقيود المدفوعةهى الثمن بدماء الفقراء…
قاطعه نجاح قائلا: كريم توقف عن الحديث، افتح باب الخان فيبدو أني ملاحق …!!! هيا بسرعة
لحظات كانا في الخان معا فأكمل نجاح… شعرت أن هناك من يرقبني ويتبعني، إن شعر جسمي يقف حين اخبرك بالأمر وهو نفس الاحساس الذي كان ينتابني من قبل حين كنت مطاردا ومطلوبا… لا اخفيك شعرت بالفزع حتى تملكني الهلع وفررت… فأنا لا أريد ان اعود الى تلك القبور المظلمة مرة أخرى…
كريم: لا أدري ما هو سبب شعورك بذلك؟! لكن الأمور قد تغيرت إن حرية التعبير والكتابة باتت رائجة خاصة بعد انتشار النافذة الألكترونية وتعدد الوسائل الاعلامية، وبات كل من يرغب في الانتقاد يمكنه ان ينشر ما يشاء بأسم وهمي او حقيقي فلا خوف بعد ولا وجل … لعلك تتخيل ما رأيت؟
نجاح: لا يا كريم… لم اتخيل وانت تعلم جيدا مدى قدرتي على التمييز بين الاشياء ومما خبرت بت كالكلب البوليسي أشم رائحة الخنازير المنتنة التابعة للوالي عن بعد…
ضحك كريم وهو يقول: كلب بوليسي … أجزم أنك تمتلك الصفات الحسنة كلها التي يملكها، هيا اطلعني على ما لديك فأنا كلي شغف لقراءة مخطوطك الذي ززجت بسببه سراديب معتمة…
ترى هل اكملته؟؟؟
نجاح: لقد فعلت وها هي الأحداث كما توقعتها حين ذكرت لك ما سيكون وما تؤول إليه الأمور، فقد كان تحليلي للأمور بشكل حسابي ومنطقي، مرت العديد من الاعوام ولا زلنا رغم التصريحات الرنانة في المربع الاول أما التغيير فهو الأضلاع بين فينة وأخرى يلتف الامر على الشعب ليشاهدوا ضلعا جديدا مع عناوين مختلفة، لكن الضلع هو نفس الضلع المربع الذي لا يمكنك الخروج عنه تماما كصندوق الاحاجي او مكعب الالوان المختلفة حيث يرمى بين يديك لإلهائك بتشكيل ألوانه… أما صناع وانتهازي الفرص يعبثون بمقدراتنا بأيدينا واصواتنا شأننا كاالأغبياء نتلقى الصفعة وما ان نتحسس مكانها لتبرد حتى نغصب لوهلة ونعود لتلقي الأخرى بمحسوبيات… وهذا يا صديقي ما دمر الوطن فئات جاءت بتعددية الى جانب المفسدين الذي تغيرت ملابسهم وهم اتباع الوالي القديم ليتنصبوا من جديد تحت متغيرات بلهاء لا تخطو بنفسها قيد أنملة..
أما هذه المخطوطة كانت سبب عزلي عن العالم، فكرةُ احملها عن الحرية في زمن الجلاد… أي جلاد وكيف يمكن الخلاص من سياطه، إننا يا كريم بحاجة للقلم والفكر والثقافة، فالزمن رغم اغتيال حريات التعبير بوجوه مغايرة للماضي لكنها لا زالت تترصد من يكتب ويثير ولو زوبعة صغيرة، فلا تنسى أننا في وقت ضربت اليد الغربية على جحور كانت تخفي الكثير من العقارب والثعابين التي نامت تنتظر اعوام طوال مدعية أنها تصارع الجبت والطاغوت من ظلمة موحشة رغم انها ترتاد ليالي الأنس في فينا كما تقول اسمهان هههههه… اعتذر لقد جرني الحديث بعيدا، ثق يا كريم ان هذه المخطوطة مهمة لما تحمل فيه من اسماء ايضا تبرثنت في ذلك العهد الأغبر ومتبرثنة حتى هذا الوقت .. إقرأه بعيدا عن عيون الأخرين وإذا اقتنعت لك حرية النشر إن رأيت انه لا يؤثر عليك أعني ان يهدد حياتك…
كريم: يا لك من مجنون…؟؟ اقول لك لقد تغير الزمن لكنك مصر على خوفك
نجاح: كأنه لم يسمع عبارة كريم الأخيرة فقال سأذهب الآن ، سأأخذ هذا الكتاب معي لقرائته…
كريم: حسنا كما تشاء الى اللقاء
خرج نجاح وهو يتلفت بسرعة يبحث بغريزة الكلب عن خنزيز يتبعه، صخب واصوات باعة وحديث جانبي وملاعق تتراقص في بطن كاسات الشاي، دخان متصاعد لا يمكن تمييز شكله أو لونه وحتى رائحته بعد إن أنغمس بين مشيويات وأدخنة مقاهي وانفاس بشر وحياطين ضاقت بكل ذلك، لكنها تدعو لله ان يصبرها على بشر يتناسون أن الحياة ابعد من جلوس على مقاهي او اكل بضحكات كاذبة مع الجلوس على طاولات لعب الدومينو والطاولي لتسلية فكوك بأضراس ربما هرمت هي ايضا من كثرة عك بفك…
شاح بنظره نحو البعيد حيث تلك البقعة الميتة، رصده وهو يقول: ها انت ذاك يا ابن الخنزيز .. تراك ماذا عازم عليه لتلحق بي!!؟ زج بنفسه بين صفوف متراصة وتارة بداخل محال مدعيا الشراء، لكنه تعب من هذه اللعبة، فجلس على احد المقاهي وهو ينادي شاي دون سكر كمن انتقدهم… فالحياة حلوة خاصة ان التغيير قد اسبغ علينا الكثير من العسل وما عدنا نشرب الشاي بالسكر… ووضع الكتاب الذي أخذه من كريم على الطاولة وهو يتلمسه…
استغرب من كانوا جالسين بقربه!!! لكنهم لم يعلقوا على ما سمعوا…
أما ذلك المترصد جلس خلفه وهو لا زال يتحسس خاصرته التي حملت مسدسه الذي يريد ان يغتال كل مفردة يمكنها ان تثير تساؤل في أدمغة شاردة…
شرب نجاح الشاي ووضع قيمته على الطاولة… وما ان نهض أمسكت يد بعنوة به وسط زحام وهي تقول له: لعلك حسبت انك ستهرب بما تفكر به وتعرف… لا أظنك تستطيع لقد صدر الامر بشأنك
سقط نجاح الى الارض دون ان يصرخ … غير ان من سمع دوي اطلاق النار بفضوله المعتاد جاء ليصبغ وجهه بالدم والدخان الذي اعتاد ان يفعل كلما سمع او شاهد نفس الحادث حين تتكر بشكل أو بآخر…