كل هذه المبالغة في الطقوس الحسينية التي تُجرى سنويا في العراق تُخرج الذكرى الحزينة من مناخها التاريخي لتعبر عن كراهية للذات العراقية وتُفرغ المناسبة من محتواها الديني لتضفي عليها طابعا طائفيا يُحرج المؤرخين ويُسكت أصواتهم التي تعرف أن هناك انتحالا في حكاية إشكالية في التاريخ العربي الإسلامي من خلال مرويات صفوية. أربعون يوما من الطوفان الكارثي يمتد من البصرة حتى كربلاء، كما لو أن هناك احتفالا جنائزيا يُقام مرة كل قرن.
لم يكن العراقيون في سالف أيامهم أقل حبا للحسين، كونه الضيف الذي نكث أجدادهم عهدهم معه وتلك مروية غير مؤكدة. شعور هادئ بالندم يفيض يوم العاشر من محرم تتخلله حفلات طعام زاهدة ومسيرات ليلية كانت أشبه بطقس فلكلوري لا حقد فيه ولا عجمة تلغز خطاباته. كان العاشر من محرم يوم عطلة رسمية وكان مناسبة لكي ينفق فيه الأثرياء أموالا فائضة تقربا من محبي الحسين واستدرارا لعواطفهم في جو من الألفة الاجتماعية تزيد من تماسك المجتمع ولا تستثني أحدا من تأثيراتها العاطفية.
لم يحدث أن استبد بالعراقيين الهوس لكي يكونوا حسينيين بدلا من أن يتمسكوا بعراقيتهم. لا لشيء إلا لأن الإمام القتيل كان عراقيا وصاحب قضية مات مظلوما. لم يفقد العراقيون يومها عقولهم ليرفعوا شعارا بمعان مبيتة مثل “يا لثارات الحسين” ولم يصل بهم الجهل إلى درجة تقديم يزيد بن معاوية الذي توفي عام 663 ميلادي إلى المحاكمة. كانت بطولة الحسين قد ترسخت في أعماقهم بمعناها الحقيقي، التمرد على الظلم ومناهضته تكريسا لمبدأ العدالة. وهو ما عبر عنه عبدالرزاق عبدالواحد الذي لم يكن مسلما في قصائده التي كتبها عن شهيد ملحمة الطف.
لم تكن المرويات الصفوية قد تسللت إلى الوجدان العراقي. غير أن كارثة الاحتلال وقد فتحت الباب لغزو إيراني عاصف قلبت الأمور رأسا على عقب. ولو لم يكن الأميركان قد هيأوا قاعدة لفساد غير مسبوق من خلال تسليمهم السلطة لأحزاب شيعية متخلفة لما استطاع الإيرانيون أن يصلوا إلى مبتغاهم في تحويل ذكرى مقتل الحسين إلى استعراضات لعروض أزياء غريبة ومسرحيات يمتزج من خلالها الغناء بالرقص واللطم ومسيرات هي عبارة عن حفلات باذخة لتوزيع الكباب وسواه من الأطعمة التي حُرم منها الفقراء العراقيون وهم مادة تلك المسيرات العبثية.
إضافة إلى ذلك فقد تم تحويل الذكرى الحزينة إلى مناسبة يذل العراقيون فيها أنفسهم. فهناك مَن يمضي إلى العتبة الحسينية زاحفا. وهناك مَن تلقي على رأسها التراب وهناك مَن يغطس في وحل من الطين وهناك مَن يغسل أقدام الزوار الإيرانيين. أما الأنبياء بدءا من آدم وإبراهيم وانتهاء بعيسى مرورا بشعيب وموسى ويونس ويعقوب ويوسف فإنهم يحضرون ممتطين خيولهم وقد ارتدوا ثيابا تنكرية ليسلموا على الحسين. سخرية ما كان عراقي ليقدم عليها يوم كان هناك مجتمع عراقي متعلم يحترم دينه بطريقة تكشف عن احترامه لعقله.
مَن يتابع شيئا من العروض “الحسينية” الجديدة لا بد أن يكتشف أن البِدع المستلهمة من التراث الفارسي قد هزمت التقاليد العراقية المتوازنة لكي يصل إلى حقيقة أن كل ما يجري إنما هو تمهيد لولادة دين جديد لشعب تخلى عن أصول دينه. وما يدعو إلى القول إن العراقيين الذين يساهمون في نشر الدين الجديد هم مجرد دمى يحركها الإيرانيون أن الاحتفال بالذكرى في إيران يتم في حفلات صامتة، يتناول فيها الحضور أكواب الشاي ويأكلون الفستق. وهو ما يعني أن الإيرانيين ضحكوا على العراقيين وسخروهم لخدمة غايات غير شريفة، تصب كلها في هدف واحد يعبر عنها الشعار المكتوب أعلى أحد أبواب العتبة الحسينية “لعن الله أمة قتلتك”.
لقد تبنت الأحزاب الشيعية الحاكمة في العراق منذ اليوم الأول للاحتلال مبادئ التشيع الصفوي وحولتها إلى برامج لتثقيف أتباعها من أجل نشر النزعة الطائفية بين صفوف العامة التي سيصعب عليها التخلي عن تلك الأحزاب بالرغم من فسادها وسيكون الاحتلال الإيراني مقبولا لأنه يشكل درعا لحماية المذهب. ارتضى الكثيرون أن يفقدوا كرامتهم الإنسانية الوطنية مقابل أن يُصان المذهب الذي هو في حقيقته لا يعبر عن أصول مذهبهم الشيعي، بل هو نسخة طبق الأصل عن المذهب الذي اخترعه الصفويون في إيران تماشيا مع العقيدة الزرادشتية.ما يشهده العراقيون من عجائب عبر أربعين يوما من كل سنة من سنوات انهيارهم الحضاري وتخلفهم وتمزق مجتمعهم وغياب إرادتهم المستقلة إنما يعبر عن هزيمتهم الحقيقية. وهم في ذلك يتخلون عن الحسين العربي ليحل محله حسين إيراني سيكون عنوانا لطائفية ستمزقهم بطريقة يكون معها الشيعة فرقا، يقاتل بعضها البعض الآخر. وهو ما ينسجم مع الرؤية السياسية الإيرانية لمستقبل العراق.