لو أن عرافا قال قبل ثلاث سنين إنه سيأتي اليوم الذي يخطب فيه قادة إيران وتركيا وقطر سوية من على منبر في الرياض، لقيل له إن عليه أن يجد مهنة أخرى. لو أنه زاد من قدرته على التنجيم، وأضاف أنهم سيزايدون على السعودية في عقر دارها، لا شك أن الرد سيكون “كذب المنجمون ولو صدقوا”. عرافنا المفترض ذو خيال واسع، لكن مشهد قمة الرياض بالأمس يتجاوز المعقول.
لا شك أن حرب غزة غيرت كل معطيات المنطقة. لا يمكن وصف ما يحدث بحق الفلسطينيين في غزة إلا بجرائم حرب. عملية التدمير المنهجية لكل شيء هناك، مصحوبة بالقتل الأعمى للمدنيين، أطفالا ونساء ورجالا، جعلت أكثر مؤيدي إسرائيل من زعماء الغرب، ممن دعّم حملتها الانتقامية بعد هجوم حماس يوم 7 أكتوبر على مستوطنات غلاف غزة، أن يعيدوا التفكير بمواقفهم ويبحثوا عن صيغة تكبح جماح الانتقام الإسرائيلي. إلى حد الساعة، لا يوجد من يمكنه أن يوقف الجنرالات الإسرائيليين في حملتهم، ولا حتى قرار من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أو ضغط أميركي من الرئيس جو بايدن. هؤلاء الضباط الكبار يتصرفون بمنطق من لا يهتم أن يأتي اليوم الذي توضع أسماؤهم فيه على قائمة اتهامات دولية بالقيام بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
ما لم يتغير بالمنطقة هو مواقف الزعماء الذين خطبوا بغضب من على منبر قمة الرياض. أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حوّل المعونات المادية التي وفرها لحماس على مدى سنوات إلى كلمات إدانة لانفلات الفعل الإسرائيلي. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الخطيب المفوّه على مدى سنوات في انتقاد إسرائيل وقادتها، تجاوز صمته وتردده على مدى الأشهر القليلة الماضية بعد أن عرف حدود قدراته، وعاد إلى كلماته الرنانة لإدانة إسرائيل. أما الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي فكان أمام فرصة تكرار خطب الجمعة أمام جمهوره الإيراني المعتاد، ولكن هذه المرة من السعودية وأمام زعماء عرب ومسلمين ليس بوسعهم الرد عليه. كانت حيرة رئيسي الكبرى تكمن في قدرته على جمع كل كلمات الإدانة للولايات المتحدة أولا، وإسرائيل ثانيا، خلال الدقائق التي تمنح لكل زعيم مشارك في القمة لإلقاء كلمته.
كيف تمكّن هؤلاء الزعماء من الوصول إلى هذا المستوى من الجرأة من على منبر الرياض؟ هل هي الحرب في غزة وما ارتكبته إسرائيل من جرائم بحق الفلسطينيين؟ أم هي المبالغة بالبراغماتية السعودية التي سبقت أزمة غزة وتركت المجال للثلاثي “المتشدد” أن يستجمع قواه ويعيد إحياء مشروع الإسلام السياسي بصيغتيه الإخوانية والخمينية؟
لا بد أن نسترجع أن محور الاعتدال الذي قادته السعودية لفترة لا علاقة له بالقضية الفلسطينية. كان المحور موجها ضد منع انتشار الإسلام السياسي في المنطقة، كمشاريع لتولي الحكم يقودها الإخوان أو تسلل ميليشياوي موال لإيران في دول الأزمات، العراق وسوريا واليمن ولبنان. بعد سنوات من حرب اليمن، أرهق الحلف الإيراني الإخواني/القطري السعودية، وبدأت الرياض تبحث عن مخرج. وساهمت تركيا بالحملة مستفيدة من جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي، بأن زادت الضغوط على القيادة السعودية وأمعنت بالإساءة لسمعتها دوليا. هذه الضغوط غيرت من أولويات السعودية، وبدأنا نشهد تفككا لمحور الاعتدال بإعادة ترتيب الأولويات لأطرافه.
كتطور جانبي، شهدنا الاتفاق الإبراهيمي عندما قررت دول بعيدة جغرافيا عن الصراع العربي – الإسرائيلي أن توقّع اتفاقيات سلام مع إسرائيل. كانت هذه الاتفاقيات متأخرة زمنيا بعقود عن اتفاقيات مماثلة وقّعها المصريون والفلسطينيون والأردنيون. التقط محور إيران/الإخوان قضية التطبيع وجعلها نقطة الانطلاقة الجديدة في إحياء محوره. لا بد من الاعتراف أنها التقاطة ذكية لأنها حرفت الرؤية عن المشروع السياسي الإخواني في المنطقة والانتشار الإيراني الميليشياوي فيها. دول محور الاعتدال صارت متهمة بالتطبيع، بعد أن كان الاتهام الموجه لها هو الوقوف بوجه صعود التيار الإسلامي إلى الحكم.
مقابل الترسانة الإعلامية الفاعلة والمستمرة لقطر وإيران وتركيا، كان الحضور الإعلامي لما كان يسمّى بدول الاعتدال ضعيفا. سيطر الثلاثي على السرديات المتداولة، ووجهوا كل شيء لدعم قراءتهم للمنطقة. وجاءهم المدد من حيث لا يحتسبون: سياسات أقل ما يقال عنها إنها حمقاء من قيادة إسرائيلية متشددة يوجهها رئيس وزراء انتهازي هو نتنياهو لا همّ له إلا الحكم والابتعاد عن المحاسبة القضائية.
نجح الثلاثي إعلاميا في تحويل صورة محور الاعتدال إلى صورة مختلفة صار مسمّاها محور التطبيع. ونسي الكثيرون أن هدف المحور كان منع تشظي المنطقة على أيدي الميليشيات والأحزاب مما ينهي صيغة الدول بشكلها الحالي. وساهمت المقاطعة السعودية للفلسطينيين واللبنانيين في رسم صورة لمحور التطبيع. وأمام مكاسب مثل هدنة في اليمن، ومصافحات في قمة العلا، وصور للتوافق مع إيران بوساطة صينية، وزيارات متبادلة للزعماء بين أنقرة والرياض، كان الثلاثي قد نجح في مسعاه في تفكيك محور الاعتدال وإعادة تسميته كمحور للتطبيع. كانت الأجواء مهيّأة للحدث الأكبر الذي جاء من غزة.
عملية “طوفان الأقصى” تم الإعداد لها من سنين. الحديث عن أنفاق غزة ليس بجديد. المناورات التدريبية لمقاتلي حماس كانت أشرطة متداولة على يوتيوب وواتساب. الصواريخ التي كانت تطلق في مواجهات متكررة مع إسرائيل كانت تأكيدا على وجود ترسانة أكبر بين يدي حماس والجهاد الإسلامي. إسرائيل تستطيع أن تحسب الفارق بين الأموال التي تتسلمها من قطر وتوصلها إلى حماس وتعرف أنها تستخدم كرواتب لمقاتلي حماس ولتشييد الأنفاق. جزء كبير من تلك الأموال التي كانت توزّع على أهل غزة كانت لضمان عدم اعتراضهم على استمرار حكم حماس من جهة، وأن يسكتوا على ما يرونه من تشييد لأنفاق تحت مدنهم ومخيماتهم من جهة أخرى. المفاجأة الوحيدة في عملية “طوفان الأقصى” أن الجميع يتعامل معها كمفاجأة.
حرب غزة، وخصوصا ما تفعله إسرائيل من جريمة موصوفة بحق المدنيين، هي ما كان ينقص الثلاثي لإعادة إطلاق محور الإسلام السياسي في المنطقة بعد أن خسر الجولة الأولى. ضع جانبا كل ما يقال عن تخاذل محور المقاومة عن نصرة أهل غزة. فبعد أن كان أيّ فعل يقوم به حزب الله أو الحوثيون أو الميليشيات في سوريا مذموما، صار الحديث الآن “لماذا لا تتحركون”. انقلبت الصورة، وصار الفعل الإيراني مطلوبا.
أوصلتنا البراغماتية غير المحسوبة إلى قمة الرياض. خرج الثلاثي رافعا الرأس من دون أن يقدم أيّ شيء فعلي غير الصوت العالي. الغاز القطري يذهب إلى الدول الداعمة للعدوان، والنفط الإيراني مثله، ولا يوجد ما يدل على أن تركيا ستجازف بعلاقاتها الاقتصادية مع الغرب لعيون الفلسطينيين. الملام في كل هذا هي السعودية. فمهما قالت ومهما نادت، فإنها متهمة بالتقصير. ضع جانبا أن القمة هي تجسيد للعجز الجماعي أمام إسرائيل وداعميها في الغرب. العجز تحصيل حاصل.دمج القمة العربية مع القمة الإسلامية زاد من عدد الوفود المشاركة بتوسيع مسمّاها. التخوف الآن من أن نرى قمة قادمة تكون الميليشيات حاضرة فيها. القمة العربية – الإسلامية – الميليشياوية بمقاعد محجوزة لحماس وحزب الله والحوثي والحشد.