لا العراق، ولا جماهيره، بحاجة لاستبدال عمامة إيرانية بعمامة عراقية.
اللغط والضجة الإعلامية ودق الدفوف الدعائية لحميد الياسري المنشق عن مليشيات الحشد الشعبي والدعوة الى انقلاب عسكري، بحجة “الوطن” و”الوطنية” والثورة على التبعية الإيرانية، هي جزء من الصراع بين النفوذ القومي الإيراني الذي يلتحف برداء حماية المذهب الشيعي ومقدساته تارة وأخرى ب”المقاومة والممانعة” ، وبين النفوذ الإسلامي الشيعي الملتحف هو الآخر بقبعة “الوطني” و”الوطنية”، نقول جزء من الصراع على السلطة والامتيازات وعدم رضى الأخير على قسمته من الفساد الإداري المالي والسياسي.ان المشكلة ليس في دعوة حميد الياسري الى الانقلاب العسكري او كما تحدث استلام حاكم عسكري السلطة في مدينة الرميثة في محافظة السماوة وغلق مقرات الأحزاب، فيمكن ان يحسب في خانة الرأي السياسي أو حرية التعبير. ولابد التنويه بأن دعوته تلك، تكشف عن عقلية ومنطق رجل دين معمم، إذ يدعو لغلق مقرات جميع الأحزاب على شاكلة ولاية الفقيه في ايران، أي تأسيس دكتاتورية عسكرية بعمامة عراقية بدلا من العمامة الإيرانية. الا ان المشكلة تكمن فيمن انضم إليها أي دعوة الياسري، ومن سوقها إعلاميا ودعائيا وايدها. ويكشف هذا المشهد الدرامي المتكرر في السيناريو السياسي العراقي بأن هناك ما يزال، من هو مخدوع ومتوهم برجل يلبس عمامة، ويدعو الى استبدال ولاية الفقيه بولاية عراقية خالصة. وأكثر أولئك الذي يبعثون عن الشفقة ممن اصطفوا كفرق “النشيد الوطني” أمام الكاميرات المأجورة، هم من يتمسحون برداء انتفاضة أكتوبر، ويعلنون تأييدهم لتصريحات الياسري الخائبة التي تكشف عن الدكتاتورية الدينية التي يقودها رجل برداء عسكري وبعمامة الياسري السوداء. وهؤلاء هم من الذين ضيعوا بوصلتهم، او من الذين همشوا في خضم توزيع بعض الفتات التي لم يحصلوا عليه اثناء عملية التزاحم بعد اعتلاء مصطفى الكاظمي السلطة على اكتاف انتفاضة أكتوبر، ولم يساعدهم القدر بالتسلل الى العملية السياسية كما تسلل أقرانهم وحصلوا على الامتيازات، والعودة إلى التخندق مع الجماعات التي وجهت قناصاتها إلى صدور المتظاهرين وقتلوا اكثر من ٨٠٠ شخص، لانهم طالبوا بالكرامة ورغيف خبز ومساواة. والجدير بالذكر، ان حميد الياسري من مؤسسي مليشيا لواء انصار المرجعية”، وهو من الذين حرضوا على انشقاق المليشيات التي ينتمي إليها قبل سنتين عن مليشيات الحشد الشعبي والذي سمي حينها “حشد المرجعية”. والمعروف أيضا ان الياسري ابعد عن جميع المراكز القيادية والإدارية في الحشد الشعبي الذي تسيطر عليه الجماعات الموالية لإيران. وعملية الاستبعاد كانت جزء من الصراع الذي أشرنا اليها، مما دفع الأخير للإعلان عن انشقاقه. وتهيج اوجاع مشاعر الياسري الوطنية تحت مظلة المرجعية، كأن الأطراف الموالية للمرجعية بعيدة عن الفساد وبريئة من كل ما يحدث من عمليات السرقة والنهب وقضم الأراضي والأملاك وامتصاص عرق العمال في المصانع والمعامل التي أسستها من أموال الفساد التي حصلت عليها. فالمؤسسة الدينية بشقيها الشيعي والسني متورطة حتى النخاع بالفساد، وأشار تحقيق استقصائي بثته قناة (الحرة-العراق) في ٣١ آب من عام ٢٠١٩ بتقرير بعنوان “اقانيم الفساد المقدس” الى تورط عبد اللطيف الهميم ومهدي الصميدعي الى جانب ممثل المرجعية الشيعية العليا علي السيستاني بالفساد، مما أشعل غضب “الحشد الشعبي” وهيئة الاعلام والاتصالات التي جمدت رخصة القناة مدة ثلاث اشهر، ومارست سلطة المليشيات التي ينتمي إليها الياسري وغيره بالضغط على موظفي القناة للاعتذار و سحب التقرير.. وما يضيف مسحة من الكوميديا السوداوية على المشهد الدعائي للياسري ودعوته الخائبة، هي امتعاض قيس الخزعلي رئيس “مليشيا عصائب أهل الحق” من تصريحات الياسري الذي وصفه في تغريدة “القوميين المعممين يريدون الاستئثار بالوطنية لتمرير مشاريعهم”.وأخيرا ان مماطلة أصحاب العمامة البيضاء او السوداء بعدم الاعتراف؛ بان العراق وجماهيره جربت حكم المعممين واصبح منتهي الصلاحية (Expired) ، منذ أن نصبتهم حراب الاحتلال في غفلة من الزمن وسلطتهم على رقاب الجماهير، ولم تجن سوى الافقار وسرقة ثرواتها وجيوبها وعرقها وأمنها وامانها.
ان رجال الدين المعممين هم عرابي الإسلام السياسي وبغض النظر عن هويتهم القومية، عرابي احد اكثر الاجنحة البرجوازية المتعفنة والطفيلية التي تعتاش على الفساد والسرقة والتحميق والاستغلال بكل انواعه. انهم وراء انتزاع الهوية الإنسانية من البشر في العراق وتقسيمهم على أساس الطائفة والدين، لتعبيد الطريق أمام الاحتلال وإضفاء الشرعية على غزوه وجرائمه. لقد كانوا سباقين في اطلاق الفتاوى بالقتل على الهوية بعد تفجيرات مرقدي سامراء في شباط من عام ٢٠٠٦.
ان العراق لا يحتاج الى عمامة اي كانت انتماءاتها القومية، سواء كانت داخل الحدود او خارجه، ان العراق بحاجة اكثر من أي وقت مضى إلى العلمانية، الى دولة ذات هوية غير قومية وغير دينية، تعرف البشر على أساس هوية المواطنة، إلى دولة عصرية ومدنية، يكون الإنسان فيها مقدس والحرية فيها دون قيد او شرط ويتمتع بمساواة كاملة دون أي تمييز قومي او عرقي او ديني او طائفي او جنسي. حينها وفقط حينها، تتساوى العمامة البيضاء والسوداء سواء كانت في ايران او في العراق وتسحب البساط من تحت اقدامهم، و تتحول أموال المؤسسة الدينية والموازنة التي تمنحها الحكومة كي تحصل على بركاتها الى التعليم والصحة ورياض الأطفال والمراكز الترفيهية والرياضية لإشباع الحاجات العاطفية والمادية للإنسان وتنمية الخلاقية والإبداع فيه.