بغداد على محور قلق ومن غير بوصلة

بغداد على محور قلق ومن غير بوصلة
آخر تحديث:

بقلم:فاروق يوسف 

لن تلتفت بغداد إلى غربها العربي بعد اليوم. هناك حيث حليفها بشار الأسد قد غادر غير مأسوف عليه إلى بلاد، كان ابنها إبن فضلان قبل عشرة قرون قد رحل إليها وأقام بين قبائلها وسط احتفاء ليس له مثيل.هل سيكون خيارها الأخير من خيار مسلحيها الذين سُدت أمامهم الطرق التي كانت تصل بهم إلى دمشق وسواها من مدن الشام؟ تلك هي التعاسة التي قد تعود بشيء من النفع عليها في زمن قريب.ستُكسر رقبتها وهي مشدودة الأعصاب في اتجاه شرق هو ليس منها ولديها معه ذكريات سيئة. شرق لا يبادلها العاطفة ولا يسقيها ماء الحنان، بل ويبخل عليها بالغاز الذي يضيء عتمة لياليها. ولن يكون العمى الطائفي قدرا أبديا لكي تبقى بغداد رهينة ذلك المصير الذي حط من قيمتها التاريخية حين جعل منها مجرد حديقة خلفية لصبيان فارس.

يُقال إن الدور جاء على بغداد. آن الأوان لتحريرها من الاحتلال الفارسي بعد أن قاربت بيروت خلاصها وانعتقت دمشق من أبد الأسد الذي أشعل النار فيها قبل فراره في ظل خرس إيران ومَن تبقى من وكلائها في العراق واليمن الذين صاروا على بينة من حقيقة أن إيران تتقن لعبة إدارة الظهر لما لا ترغب في رؤيته من هزائمها.بغداد هي المدينة التالية. ذلك ما لا يصدقه أهلها وقد وهنت أعصابهم ويبست شفاههم وترققت عظامهم وتعبت أياديهم من التلويح في فضاء وهمي. ما قيل وسط تهريج طائفي رافقه الكثير من العنف، من أن أهل تلك المدينة التي تعبت من الحروب لا ينتظرون إلا الفرج الذي يأتي مع ظهور الإمام الغائب، هو نوع من اللعب الأبله في الوقت الضائع. تعرف بغداد أن كل ما مضى في كفة وفي الكفة الثانية ذلك العذاب الذي سيقربها من قيامتها.

بعد فرار الإيرانيين وأتباعهم، من مرتزقة عراقيين وأفغان، من سوريا في وقت قياسي لم يكن يتخيله أحد صار أتباع النظام الإيراني في العراق يضعون أيديهم على قلوبهم خشية أن يخونهم التوقيت ولا تبلغهم إيران بموعد الهروب فتدوسهم الأقدام التي صارت اليوم تنظم حركتها على إيقاع التحول الذي بات قريبا.بغداد التي خذلها الجميع، أبناؤها القادمون من غربتهم التي لم يتعلموا منها شيئا ينفعهم وينقذ بلادهم من جحيمها وأبناؤها في الداخل الذين ضربتهم الحروب باليأس. ولم يكن الأميركان إلا سببا في تكريس الانهيار الداخلي الذي كان حصيلة لماض من الشقاء الذي تعددت أشكاله مع تقلب الأزمنة التي ملأها العراقيون عنفا وقسوة وذهبوا ضحية لها وهم يتوهمون أنهم يصنعون قدرهم الوطني الذي انتهى بهم إلى فشل تاريخي.

بغداد تنتظر. فرحت يوم 8 – 8 – 1988 حين انتهى انتظارها بعد حرب الثماني سنوات بيوم نصر مر سريعا ليسلمها إلى انتظار الغزاة الذين جاءوا من جنوبها وقد طال أمد ذلك الانتظار إلى أن حل يوم التاسع من نيسان – أبريل 2003 لتحل فاجعة الاحتلال التي لم يعد للانتظار بعدها من معنى. ولكن بغداد بعد ما جرى في لبنان وسوريا عادت إلى الانتظار.تقيم بغداد على محور قلق وتمشي بقدمين من غبار من غير بوصلة. عادت إليها ميليشياتها التي لا تواليها من سوريا فصار عليها أن توسع مساحة معسكرات، هي ليست جزءا من جغرافية خيالها، بل فرضت على واقعها المضطرب باعتبارها علامة شؤم وساعة خراب.

بغداد اليوم ليست بغداد. لقد تنكرت لمنصورها ورشيدها ومعتصمها وناظمها وجوادها وعفيفتها ونوريها وسركونها وحلاجها وكيلانها وفتيتها الذين جمعوا الكون من ألفه إلى يائه في رسائل إخوان الصفا. فهل ستتمكن من استعادة ما فقدته من لغتها ومزاجها وصفاء سريرتها وأريحيتها ونضارتها وعلو مقامها وكرمها وعنفوان شبابها وصخب دمها وأصوات شبابها المترعة بقصائد شاعرها أبي نواس إذا ما انقشعت غيوم الليل الفارسي عن سمائها؟منذ أكثر من ستين سنة وبغداد تتقلب بألم. مرات على مقلاة الأحزاب ومرات على مقلاة أعدائها من روم ومن عجم. ولم يكن أبناؤها وقد تسلحوا بعقائد أحزابهم أقل قسوة عليها من أعدائها الذين يودون لو أنهم أطفأوا النار التي أشعلها المنصور من أجل أن يرسم حدود مدينته الدائرية.لن تكتمل خريطة الشرق الأوسط الجديد من غير أن تتحرر بغداد. في ذلك جزء من الأمل. وهو أمل تخشاه بغداد بقدر ما تضع نذورها بين يديه.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *