الفلسفة الشعبيَّة أو فلسفة العوام

الفلسفة الشعبيَّة أو فلسفة العوام
آخر تحديث:

عبد الغفار العطوي

تدل كلمة (عوام) في معاجم اللغة العربية على معنى جمهور العامة ويفهم المقصود منها أيضاً كل الناس العاديين ذوي المستويات الهابطة  في الثقافة والتعليم  ويشكل هؤلاء جموعاً لا يستهان بها في مجتمعاتنا إذا لم يشكلوا السواد الأعظم منها، ولقد أهملوا من هذه الناحية الفلسفية والفكرية بالرغم من أن  (العوام) يمثلون مرجل  الثورات  والانتفاضات الشعبية كما  تؤكدها التاريخيات المهملة، والهويات المحرفة، والمذهبيات المتصارعة في نظام الزمان العربي الإسلامي،  لكن ما مورس ضدهم في الثقافة العربية من سلطة التجهيل المقدس عبر ثقافة المسكوت عنه واعتبروا عواماً  كونهم بعيدين عن   ثقافة الخاصة التي كانت السلطة الحاكمة تتبناها، والتي اتخذت الدين أيديولوجيا قامعة.

 وقد زحفت  كلمة (عوام) كغيرها من المفهومات في اللسان  العوامي، في دلالتها الحمولية، كي تؤدي المغزى المتدني من المعرفة، بينما اكتشف علماء اللغة (اللسانيات) أن التطور الحادث في معنى الكلمة (عوام) في حالة وجودها الاصطلاحي يختلف في التعاقب الزمني، وبموضعها الجملي والسياقي إذ يأتي من خلال استعمالها من قبل العامة (العوام) ولعل نظرة أبي حامد الغزالي (1058 – 1111) الأشعري السلفي التي بينها في كتابه (إلجام العوام عن علم الكلام)،  وهو عبارة عن رسالة  في مذهب أهل السلف، كتبه قبيل وفاته (505 هـ) وعلى ما يبدو يشكل هذا الكتاب هجوماً على اعتقادات العامة (العوام) التي تختلف عن  اعتقادات (الخاصة) ويعتبرها الغزالي خطوة نحو إفساد الدين، باعتبار أن علم الكلام هو علم يبحث  في أصول الدين الإسلامي، ويتوخى بيان ما هو داخل في أصول الدين، وما هو خارج منها، ويتناول بحوثه فريقان مختلفان هما المعتزلة والأشاعرة في صراعهما المعرفي، بيد أن تحذير الغزالي يتلخص في فكرة الإساءة التي يقوم بها العوام  للدين عبر تبنيهم له، عندما يصبح في متناول يد (العوام) فيمثل ذلك خطراً على المباني الفلسفية التي يعتمدها الفلاسفة والمتكلمون، في تصورهم لمقاصد الفلسفة، فتجنب اطلاع العوام على الفلسفة، يجعلها من الأدوات الخاصة بمسألة التفكير التي يفتقدها الناس العاديون، لكن هذه الفكرة السلبية عن العلاقة بين الفلسفة والعوام، وأن العوام لا يفقهون شيئاً، ولا يمتلكون  أي منصات  للتفكير السليم تقودهم إلى إنشاء نوع محدد من الفلسفة الشعبية، أضاعت على الباحثين القدامى فرصة تطوير نوع من الفلسفة الشعبية، وفلسفة للعوام كان بإمكانها أن تحتفظ باعتقادات الناس سارية، بعكس الغرب، فقد نزع أكثر من فيلسوف إلى إنشاء فلسفة أطلق عليها (الفلسفة الشعبية أو فلسفة العوام) وتعني مجموع  الدراسات التي انتشرت في ألمانيا والتي أكدت على نزعة التحر، وبدأت من (فولف) (1679 – 1754)  وتمتاز بأنها دراسات متحررة  من الصورة  العلمية، ومتناسبة مع مستوى الجمهور. من جهته أورد الفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل دولوز (1925 – 1995) رداً على نقد وجه لكتابه (ضد أودب)  يبرر فيه دعوته نحو تحرير الفلسفة التقليدية من جديتها، وطابعها  الاسكولائي، والتقييد المنهجي الصارم الذي يقوده الدرس الأكادديمي، وهو لا يضيف  للنص الفلسفي شيئاً سوى في الحواشي، ولما برزت المدرسة التحليلية والتجريبية بداية القرن العشرين على يد شليك ومور وكارناب، ومثلتها فلسفة الوضعية المنطقية بإبعاد الفلسفة عن مباحثها التقليدية الميتافيزيقية، واستبدالها بالعلم والمنطق الرمزي، فكانت كلمات وايتهيد الفيلسوف البريطاني المعاصر وأحد أقطاب محاربة الميتافيزيقا واضحة: ما كتاباتنا نحن المعاصرين في الفلسفة إلا تهميش على كتابات إفلاطون، وكانت الفلسفة الشعبية في أوربا قد مقتت سقراط وأفلاطون، ولعل فلسفة العوام  في الحضارة الإسلامية في الحقبة الوسيطة قد ظهرت في عصر بروز صراع العقائد، فكانت لسانها الناطق في جملة إشكاليات برزت على سطح الثقافة العربية  الإسلامية، تمركزت حول أهم إشكالية فلسفية وكلامية وفقهية شعبية ضربت الحياة الثقافية العربية الإسلامية، ألا وهي مسألة الفرقة الناجية التي أشكلت على العقل الإسلامي الرسمي الذي يتنازعه الفقهاء والفلاسفة  والمتكلمون  في فضاء ما بين النص المقدس والرواية، ووضعته في حيرة إشكالوية، وبالتالي عطلت فاعليته، بينما أنعشت فلسفة العوام التي حلقت في سكرات القدرية والجبرية، حينما اتخذت المسار الباطني والغنوصي، فشعر فلاسفة الإسلام بأن ثمة نمطاً للتفكير بات منافساً لهم، وبدأ يترسب حول المخيال الشعبي آنذاك، ومن هؤلاء الذين دقوا ناقوس خطر فلسفة جديدة ستصبح هي السائدة بين جمهور العوام، عندما تنطفئ أنوار الحضارة الإسلامية، الغزالي وابن رشد،  إذ شعروا بالخوف الذي راح يهدد المباني  التي سعت لأجلها الفلسفة الرسمية، لكن وأد عملية استتباب فلسفة العوام  لم يستأصل اعتقادات الناس العاديين، بل تغلغلت في الوعي الجمعي، فظلت معالم تلك الاعتقادات نابتة في البناء اللغوي والأدبي والسيري والروائي الخرافي، وتحولت معالم تلك الاعتقادات النابتة في البناء اللغوي ناحية تحولات في الخطابات المتنازعة، إلا أن المناخ المعرفي اتسم بالتشاؤمية، بإجهاض الحركات الفكرية القادرة لو أتيحت فرصة لها، على أن تلعب دوراً تغييريا في الفلسفة الإسلامية  وتحديد أطر تحديثها، بينما مالت جهود بعض فلاسفة الغرب نحو إشعال المرح واللعب، في جنبات الفلسفة الشعبية بجهود مندلسون وفليمر وغيرهما، لأن الفارق بين نهلستية فلسفة العوام في الإسلام، والراديكالية الثورية للفلسفة الشعبية في الغرب، جاء على حساب تبني نخبة الانتلجنسيا الغربية الثورة على الأطر الاسكولائية في الفكر والفلسفة، بعكس نخبة الإكليروس الدينية  في الإسلام التي قمعت محاولات العوام في ترطيب خشونة الدين الرسمي بنزعاتها التخيلية، وفرض ثقافة النص المحرم  والرواية المقدسة، ومع ذلك ورث العوام فلسفة شعبية شفاهية كخزين لا ينضب من معتقدات غير مهضومة يحركها المخيال الشعبي، في حين مضت الفلسفة الشعبية الغربية تنافح الفلسفة الرسمية منذ أن أدركت عدم قدرتها على وضع قضايا الناس في متناول مباحثها، وكانت كراهيتها لفلاسفة الكينونة كسقراط وأفلاطون وكانط وهيجل وغيرهم من الذين حلقوا في سماء المثالية بمثابة نقد للفلسفة، ولعل كارل ماركس وفريدريك أنجلز  وشوبنهاور وجيلاً صارخًا من الوجوديين والبراجماتيين وجهوا صفعة قوية لتلك الفلسفة الأكاديمية، مثلما فعل ماركس  في (بؤس الفلسفة)  ويمكن عد كتاب شوبنهاور (العالم إرادة و فكرة) الصادر عام 1818 من الكتابات التي سلطت الضوء على فشل الفلسفة في تفسير عالم الظواهر، وذلك برده إلى قوى عمياء. 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *