الاحتفاءُ بالأثَر

الاحتفاءُ بالأثَر
آخر تحديث:

محمد صابر عبيد

يوصف الأثر عادة بأنه ذاكرة الشعب أو الأمة وضميرها الحيّ المعبّر عن جوهرها وتاريخها وميراثها الحضاري بوصفه علامة حاضرة في شاشة الدهر والزمن، على النحو الذي لا بد من الانتباه إليه بشدة والاحتفاء به بعمق وحيوية وصراحة لغزارة معناه وغلاء ثمنه وفرادة أنموذجه، ولا شك في أن الشعوب والأمم التي لا آثار لها لا ذاكرة لها ولا تاريخ ولا تراث. 

ولا يقف الأثر عند حدود القيمة التاريخيّة التي تدلّ على حضارة الشعب وذاكرته الحيّة بل ينطوي على قيمة جماليّة وسياحيّة كبرى، ويمكن أن تكون فرصة تسويقيّة تجلب سيّاحاً كثيرين؛ وتوفّر للدولة إيرادات ماليّة هائلة تسهم في تنشيط اقتصادها ومضاعفة ميزانيتها السنويّة، على النحو الذي يؤسّس لثقافة فكريّة واجتماعيّة واقتصاديّة عالية المستوى تجعل الاحتفاء بالأثر نوعاً خاصاً من ممارسة الفكر النوعيّ ذي الطبيعة الجماليّة.

يمرّ الأثر لأجل أن يصل مرحلة الاستثمار السياحيّ الرصين والأصيل والمثمر بمجموعة من المراحل ذات الطبيعة العلميّة القائمة على التخطيط والمعرفة والإدارة الذكيّة، وكلّ مرحلة من هذه المراحل تحتاج إلى وعي علميّ وثقافيّ وإجرائيّ قائم على فكرة التعامل مع الأثر على أنّه قضيّة قوميّة بالغة الخطورة، ولا بدّ من الانتباه لخصوصيتها والتفاعل معها بوصفها هُويّة نافذة للأمة تقتضي أعلى درجات الحرص والعناية الفائقة، والنظر إلى الأثر من زاوية ما يمثّله من ثروة قوميّة باهرة على الصعيد الجماليّ الكليّ والاقتصاديّ الماديّ، ودعم ميزانية المراحل بأكبر قدر من الجهد والمال والتخصّص العلميّ الدقيق والاستعانة بالخبرات النوعيّة الكبرى في هذا المجال.

يمكن وصف المرحلة الأولى بمرحلة اكتشاف الأثر التي تأتي عن دراسة وتخطيط وبحث تاريخيّ آثاريّ عميق يحدّد منطقة الأثر ونوعه وطبيعته، ويقدّم بيانات تتوفّر على قدرٍ عالٍ من المعرفة المؤكَّدة الوافية تساعد المعنيين للإقدام على المرحلة الثانية من هذه المراحل وهي مرحلة استخراج الأثر، التي تُستخدَم فيها أدوات وآليّات عمل متطوّرة وحديثة للكشف والاكتشاف واستخراج الأثر بممارسات حيّة بالغة الدقّة، تعرف كيف تحافظ على الأثر بعدم تأثّر أيّ جزء منه مهما كان صغيراً ودقيقاً بضررٍ ما، وهو ما يحتاج إلى براعة كبيرة وخبرة عالية ومعرفة عميقة ووعي كثيف كي تنتهي عمليّات الاستخراج إلى أعلى مراحل النجاح، لأنّ أبسط ضررٍ يقع على جزء من أجزاء الأثر يقلّل من قيمته ويفسد طاقته الجماليّة في مركز جوهريّ من مراكزها، وقد يعطّل إمكانية عرضه في نهاية الأمر حين يفتقر للمستوى المطلوب من اللياقة لهذه المهمّة السياحيّة الحضاريّة، ويضيّع على عالم الآثار في المراحل اللاحقة فرصة الاحتفاظ بالقيمة الكليّة له على مستوى الشكل وعلى مستوى قراءة صحيحة ومجدية للتاريخ أيضاً.

يمكن وصف المرحلة اللاحقة لهذه المرحلة بمرحلة ترميم الأثر التي يجب أن تجري في مختبرات خاصّة مُعدّة إعداداً سليماً لهذا الغرض، إذ يستحيل بطبيعة الحال أن يتمّ استخراج الأثر وهو بكامل عافيته، فعمليات الاستخراج مهما بلغت من دقّة وحرص وخبرة لا يمكنها إلا أن تقع في أخطاء بسيطة يفقد فيها الأثر جزءاً ولو بسيطاً من شكله الأوّل، فتبدأ على الفور مرحلة ترميم الأثر باستخدام آليّات عمل جديدة ذات طبيعة علميّة أيضاً، وهو علم قائم بذاته فيه يمارسه ثلّة من متخصّصين لديهم الخبرة الكافية والممارسة الفعليّة الرصينة للعمل على الأثر، وإصلاح النقص أو التلف أو الخطأ الذي أصاب جزءاً منه بطريقة بالغة التعقيد والدقّة بحيث يبدو وكأنّه لم يتعرّض لضرر، وهي مرحلة تجميليّة تنطوي على أفعال جراحيّة لا تخلو من صعوبات كبرى لا سبيل إلا الاجتهاد في العبور من فوقها وتجاوزها، غير أنّ الطبيب الجرّاح البارع يعرف كيف ينقذ الأثر ممّا يصيبه من تصدّعات هنا وهناك في مرحلة الاستخراج، بما لديه من خبرة ومعرفة وحساسيّة ومسؤوليّة وأفق واجتهاد وشجاعة وجرأة وثقة.

تبقى المرحلة الأخيرة وهي مرحلة “عرض الأثر”، وهي المرحلة النهائيّة من مراحل العناية الحضارية بهذه القيمة العليا في ثقافات الشعوب، إذ يصل الأثر فيها إلى صورة يمكن عرضها بشكل سياحيّ تستقطب الزوّار وتدرّ على البلد أرباحاً ماديّة ومعنوية دائمة، وهذه المرحلة من الأهميّة والخطورة بمكان بحيث لا يمكن أن تتوقّف عند حدّ مُعيّن، لا بدّ من إدامة مستمرّة وتحديث مستمرّ لسبل العرض وتقاناته وأساليبه بما يتوافق مع التطورات العصريّة في هذا المجال، وصيانة المعروضات بطريقة علميّة تجعل الأثر محتفظاً برونقه وقيمته وحالته الجيّدة القابلة للعرض والتلقّي.

تتكامل صورة الاحتفاء بالأثر على هذا النحو بحضور أعلى درجات التناسب والتماثل والتعاضد والتفاعل بين هذه المراحل، على النحو الذي يجعل فضاء العمل مشتركاً بين مرحلة وأخرى بحيث تقود كلّ مرحلة منها إلى مرحلة لاحقة بوعي وإدراك ومعرفة مستدامة، بإدارة عقل جمعيّ كبير يهيمن على حركة المراحل ويوفّر لها ما تحتاج بأعلى درجات الأمان والديمومة والحضور، كي تكتسب العمليّة صورتها المطلوبة القائمة على أنموذجيّة حاذقة في التوافق والتفاعل وتبادل الرأي والمشورة، لتصل الأمور في الختام إلى مآلاتها القصوى وهي في أفضل وأكمل وأجمل حال.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *