التائه لا يدل أحداً على طريق، أو مقتدى الصدر

التائه لا يدل أحداً على طريق، أو مقتدى الصدر
آخر تحديث:

بقلم: علي الصراف

لم يرغب حلفاء مقتدى الصدر، من السنة والأكراد، التخلي عنه، ولكنه أجبرهم عليه، بما هو فيه من تيه.فهو لا يريد الحوار. والمنطق في الحوار هو أنه يصلح حتى مع الشياطين. وهو لا يريد عودة نوابه إلى مجلس النواب، ولا حتى لأجل حله من الداخل. وعندما حاصر البرلمان، خسر المناظرة لصالح الذين صاروا حريصين على “السياقات الدستورية”، من جانب أولئك الذين لم يحترموها أصلا عندما شكلوا “الثلث المعطل”. أي أنه خسر “سياقات النفاق” التي ظل يمارسها “المتنافقون” ضده والتي مارسها هو ضد نفسه. فدعوى أنه لا يريد المحاصصة لا تستقيم مع تحالفاته نفسها، لأنها قائمة هي الأخرى على قاعدة المحاصصة، سوى أنها تستعبد مؤسسيها، مما بدا شيئا “غير منصف” لحلفاء إيران التي كان هو نفسه حليفا لها.

ما هي الخطوة التالية من بعد ذلك؟ لو سألت الصدر هذا السؤال فإنه لن يدلك على جواب. لأنه تائه أصلا. والتائه لا يدل أحدا على طريق.

الحوار بموجب مطالب محددة، مشروعة، وعادلة، وأخلاقية في أعين العراقيين، ليس عيبا في شيء. وحتى لو أنه لم يفض إلى نتيجة، وهذا أمر متوقع، فإنه يُبطل على الأقل دعاوى الفريق الآخر الذي تحول إلى حمل وديع في الحرص على قيم الحوار والتفاهم والشراكة و.. “حب الوطن”… إلخ، من سمات التنافق “التّقوي” المألوف. الرواية القرآنية تقول إن الله سبحانه، تحاور مع إبليس وأذن له. “قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ. قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ” (الأعراف 14-16). هذا حوار. حتى أنه حوار عنيد، ولكن سُمح به لكي لا يتحول إبليس إلى نوري مالكي آخر يدافع عن قيم الحوار ثم يُصبح ويُمسي وهو يلهج بـ”حب الوطن”.ولقد خسر الصدر السجال عندما كان نوابه داخل البرلمان، على الوجهين معا.

أولا، عندما لم يحدد شروطا صارمة لمراعاة المصالح الوطنية للعراقيين، للمشاركة في الحكومة. واقتصرت اعتراضاته على كتلة “دولة القانون” وعلى شخص المالكي نفسه. أي أن القضية ظهرت كقضية شخصية وليس كقضية معايير وطنية. وكانت تلك بمثابة خسارة مسبقة للمعايير الوطنية ولدعاويه فيها.

حتى أنه قَبِل مشاركة شركاء آخرين في منظومة الفساد، طالما أن المالكي ليس من بينهم، ما أبطل دعوى أنه يريد مكافحة الفساد. ولو قال إنه يريد “مكافحة فساد المالكي” وقبول فساد الآخرين، لكان أصدق مع نفسه ومع مؤيديه. ولا أحد يعرف ما هو الفرق بين المالكي وباقي أقرانه في “الإطار التنسيقي”. وهم أباليس تشبه بعضها، التأمت على الولاء لإيران وخدمة حرسها الثوري والخضوع لوليّها الفقيه.

وثانيا، عندما لم يجعل كتلته قوة قادرة على كسب المشاعر الوطنية، ببرنامج حكومي واضح المعالم، يشارك في الحكومة كل مَنْ يوافق عليه، بناء على رقابة والتزامات لا لبس فيها ولا تدليس. وعندما لم يجعل كتلته قوة تدافع عن حل البرلمان، إذا ما فشلت جهوده. وهو ما كان سيوفر له مناسبة لفضح الأباليس، بدلا من الوقوع تحت مطارق نفاقهم. وعندما لم يفتح أبواب كتلته للتفاهم مع وطنيين آخرين، ليس بمعايير الانضواء تحت عباءته، كما فعل مع الشيوعيين، ولكن بمعايير الانضواء لبرنامج خلاص وطني. البرنامج لم يُعدّ. والخلاص لم يأت، والصدريون بقوا “صدريين” أي بلا شركاء وطنيين يعرفون على ماذا يتشاركون.

لم يفعل الصدر كل ذلك، لأنه تائه. ولأنه يتصرف بمزاجية مراهق، رغم أنه بلغ من العمر 52 عاما.

لا يجهل الصدر أن حلفاءه، سواء كانوا من عشيرة محمد الحلبوسي وخميس الخنجر، أو كانوا من عشيرة مسعود بارزاني، تورطوا، كلٌّ بمقدار حصته، في أعمال لا تمتّ إلى المعايير الوطنية بأي صلة. بل ولا تنم حتى عن أدنى احترام لقيم النزاهة. حتى أن عشيرة مسعود، أرادت أن تقدم متهما رسميا بالفساد، ضالعا، بل غارقا إلى أذنيه فيه، ليكون رئيسا للعراق. وهذا أمر “متوافق” مع النفس ومع طبيعة نظام المحاصصة الطائفية. تلك العشيرة إنما أرادت القول، بحسب المثل اللبناني الشهير: “هيك مضبطة، بدها هيك ختم”.

ولكن بما أن الأمور تشبه القول “من هالمال، حمل جمال” وبما أن الغالبية الغالبة في بيئة السياسة العراقية جاءت من قاع القاع في سقط المتاع فإن السبيل الوحيد للنفاذ من معضلات التغيير كان يقتضي الالتفات إلى المعايير، إلى الأسس، إلى البرنامج، بدلا من الأشخاص والكتل والأحزاب، في إطار من القول: هذا هو السبيل، فليقف معنا من يريد السير فيه.

لقد توفرت للصدر، بحق أو من دون حق، فرصة نادرة لكي يُثبت أنه يعرف ما يريد، ويعرف الطريق إليه. إلا أنه أضاعه.لا يجب أن يلوم الصدر أيّ أحد سواه. ليس لأنه امتلك الفرصة، بل لأنه ما يزال يمتلك شيئا منها.ولا تعرف لماذا يتراجع الصدر عن الموقف الصواب، ولا يتراجع عن الموقف الخاطئ. ولكن هذا هو الحال مع تائه.لقد استقال وتراجع. ثم استقال وتراجع، تسع مرات. لقد كان يمكن لاستقالة حقيقية أن تفتح الطريق لمشروع وطني لا يسطو عليه مراهقون يستميلون الدعم من “الطائفة الأكبر”.

الصدر، كان يجب أن يفهم أنه ليس الوطني الوحيد. ولو أنه اختار الاستقالة والثبات عليها، لكان بوسع وطنيين آخرين أن يستقطبوا التأييد من دون عباءة دينية.ولكنه لم يفعل. وظل يتراجع عن الصواب. بينما بقي على رفضه القاطع لعودة نوابه إلى البرلمان. هذه الخطيئة لا يتراجع عنها، رغم أنها أمر تتوفر له قاعدة قانونية مقبولة، من قبيل التعرض للضغط والابتزاز والتهديد، ورغم أنها يمكن أن تفتح بابا، ولو ضيقا، لمخرج.وهناك سبب بسيط لذلك، هو أنه لا يعرف ماذا يمكن أن يفعل بنوابه الـ73. تعامل معهم كخرفان. قال لهم روحوا، فذهبوا. وقال لهم تعالوا فجاؤوا. ومن ثمّ، لأنه لا يعرف ماذا يفعل مع حلفائه، ولا إلى أين يريد أن يقودهم. وكان من الطبيعي أن يتخلوا عنه. على الأقل لأنهم يعرفون ماذا يريدون من السلطة.

الشلل والفوضى وضياع الأفق وانغلاق المخارج من الأزمة، أمور تحدث بسبب فشله هو. بينما كان بوسعه أن يستحدث منعطفا جادا أو حتى جذريا في الوضع العراقي الراهن، لو توفرت له رؤية واضحة لما يتوجب القيام به، بمعزل عن المناكدات الشخصية، بل بمعزل عن شخصنة أيّ شيء.ولكن التائه تائه في النهاية. والتائه لا يدل أحدا على طريق. وهو لا يني يخدم خصومه بهذا التيه. حتى أصبح “حب الوطن” شعارهم، وحتى ظهروا كأنهم أناس “محترمون” يحرصون على “السياقات الدستورية” ومؤسساتها ويدافعون عن القانون. وما من واحد فيهم إلا وجاء من قاع الفساد والخيانة والجريمة.لا بد أنهم الآن، يشكرون الصدر على كل ما أتاحه لهم من فرص.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *