التعالقُ المتماسكُ ​​تمرينٌ افتراضيٌ في عنوان مزدوج​

التعالقُ المتماسكُ ​​تمرينٌ افتراضيٌ في عنوان مزدوج​
آخر تحديث:

بشير حاجم

حين وجّه «جيرار جينيت» بضرورة أيّ بحث في (المناص)، الذي تعمّق باحثون عرب في البعض من عناصره، أراد الإشارة لتعقُّد ظاهرته: (سعيت هنا إلى تفكيك هذه الثلاثية المزعجة بأن أعدت رسم تكوّنها التدريجي، وميزت، بما أمكنني من الدقة، الأنماط المتعلقة بجامع النص، التي تتداخل فيها) قاصداً بـ «هذه الثلاثية المزعجة»: الغنائي، الملحمي، الدرامي. لذلك حاول تحديد مصطلحه بكلا مقطعيه المتركّبين ذوَي الأصلين التاريخيين، في الثقافتين اليونانية ثم اللاتينية، أي: «para» بتعريف لـ «هيليس ميلر»: سابقة ضدية، نقصد بها القرب (المجاورة)، والبعد في آن، الائتلاف والاختلاف، الداخلية والخارجية – «text» عند «محمد مفتاح»: بروز أو ظهور، منتهى شيء أو غايته، غاية بالغة أو صنعة مكتملة. إذ قعّد مفاهيمه كلّها بأنواع مبادئ سؤالية له: أين؟ مكانيّاً، متى؟ زمانيّاً، كيف؟ مادّيّاً، ممّن؟ تداوليّاً، ماذا؟ وظيفيّاً، على التوالي، مع تفاصيل تقريرية لها. ثم أجملها تحت مسمّى: المناص التأليفي، أي: مناص المؤلف، ذي النص المحيط: بلوغ الغاية، مع النص الفوقي: كمال الصنعة، حيث «العنوان» من أهم عناصره كنص مواز. فهو بحسب «لوي هويك» ذو جهاز مفاهيمي له معالم تحليلية، كما يعرف ذلك المشتغلون بالعنونة، معرّفاً إيّاه تعريفا دقيقا شاملا للاتصال الأدبي بأنه: مجموعة العلامات اللسانية، من كلمات وجمل، وحتى نصوص، قد تظهر على رأس النص لتدل عليه وتعينه، تشير لمحتواه الكلي، ولتجذب جمهوره المستهدف. ما يعني أن للعنوان وظائف متواشجة: تعيينية، وصفية، إغرائية، إيحائية، كل واحدة منها ذات قوة إنجازية: وظيفة تعمل اللغة بواسطتها في متلقي الخبر، كما هي عند «أوستين وارين»، خصوصاً، مُجمعة على أن (المهم في العنوان هو سؤال الكيفية، أي كيف يمكننا قراءته كنص قابل للتحليل والتأويل يناص نصه الأصلي؟)، تماماً، بحسب عبد الحق بلعابد.

الآن، حيث نتعلّق بهذا الاجماع، هَبْ أنّنا أمام عنوان مزدوج كهذا: مبنى التقنيات ومعنى الدلالات – الجمالية الثيمية في الرواية العراقية.. هو ذا، تحديداً، سؤالنا «المهم»: (كيف يمكننا قراءته كنص قابل للتحليل والتأويل؟).. يجب على هذه «الكيفية» الإمكانية القرائية، كي تبدو مقنعة، أن تنطلق من الاستفهام الآتي: هل لعنوانيه التراتبيّين، بتنظيرية أولهما وتطبيقية ثانيهما، ما يُحقّق التعالق المتماسك الذي (يناص نصه الأصلي؟).. هنا تمرين افتراضي من فقرتين متتاليتين، منفصلتين متّصلتين!، معنيّتين بهذين العنوانين علميّاً وفنّياً على التوالي:

بخصوص العنوان الكلّي: مبنى التقنيات ومعنى الدلالات، حسب (العلم) أوّلاً، يعني: الخطاب البنيوي، مما يعنيه في الدرجة الأولى، لهذا لا بدّ من البدء بقول روبرت دي بوجراند: يمكن لمجموعة من النصوص ذات العلاقات المشتركة أن تعد خطابا أي تواليا للوقائع الاستعمالية يمكن العودة إليه في وقت لاحق، أما جملة أحداث الخطاب ذات العلاقات المشتركة في جماعة أو مجتمع فإنها يمكن أن تسمى عالم خطاب. هذا الخطاب ذو شقّين متوالفين: مجموعة نصوص – جملة أحداث، بحكم «ذات العلاقات المشتركة»، يعنيان في المقام الأول، ليس الأوحد، عالماً رحباً لخطاب أدبي ذي توال تراتبي لوقائع استعمالية: متقابلة متواجهة، بالضرورة، لأنّ للخطاب الأدبي صوتيّ: الذات (أنا) – الغير (هو). 

إذ إضافةً لما بعده من خطابات نقدية، تقول إن النقد آتٍ بلغة ثانية حائمة فوق اللغة الأولى، هو جوهريّاً محاورة ذات طرفين: علاقة جدلية متلبّسة لخطاب أدبي بصيغة شاملة. فهي ملتقى لرؤى متعايشة ضمن حيّز بذاته، عينه ـ نفسه، لكُلُّ واحدة منها حياة خاصة، مستقلة لكنْ نسبيّاً لا مطلقيّاً، فيما كُلّها معاً كاسبة للخطاب الأدبي نزعة خلّاقة خصبة متّسمة بتعدّدية ديمقراطية، عند «ميخائيل باختين». لذلك، وفْق مريدين له، بويطيقيين ـ سيميائيين، يُعدُّ «الخطاب البنيوي» أهمَّ الخطابات الممثّلة لـ(الخطاب الأدبي) نصّيّاً، لا سياقيّاً، بدءاً من «اللغة» مكانةً أولى، غير وحيدة، مُذْ أُفصح بحسب «سعيد الغانمي» عن: ما علاقة علم اللغة بالأدب؟ فبحسب ادوارد سابير، أوّلِ روّاد البنية التوزيعية، ثمة: اختزال العملية الكلامية في التفكير، ولهذا الاختزال صور عديدة دون ريب تبعاً للسمات البنيوية. وبحسب تزفتان تودوروف، صاحب القراءة بوصفها بناءً، يجب التركيز داخل النص على: أن تكشف عن وجود بنية يشكلها توزيع عناصر بنيوية معينة. 

أما بحسب رولان بارت، من خلال التصنيف البنيوي للصور البلاغية، فثمة اقتراح: أن نستبدل التعريف الوظيفي للبلاغة بتعريف يرتبط بمعناها الداخلي، تعريف (بنيوي). ثم بحسب روجر فاولر، أحد ممثلي النحو التحويلي، يقال: إن عالم اللغة يكتب القواعد في محاولة لعرض بنية الجمل «…» وتحليله البنيوي له ما يبرره. كذلك بحسب «جي. بي. ثورن»، المشتغل للنحو بالتحليل، يُفترض: أن الأسلوبية ستستمر أساساً في الاهتمام بتحديد الخواص البنيوية لنصوص معينة، ولا سيما النصوص الأدبية. أخيراً، لا آخِراً، بحسب «روبرت شولز»، المعني بتأويل النصوص الأدبية، هناك حتماً: دور مهم لمقاربة التأويل الذي يهدف، قدر الإمكان، إلى إيضاح بنى المعنى النحوية والدلالية والتداولية. أما بشأن العنوان الجزئي: الجمالية الثيمية في الرواية العراقية، حسْب «الفن» ثانياً، فيخصّ، في المقام الأوحد، رواية تتسيّد جميع الروايات العربية، إجمالاً، بـ: نجاعة اللغة، متانة البناء، سلاسة الأسلوب، خصوصا، منذ بداية الثمانينيات. وإذا كان قولٌ كهذا مهمّاً، ربّما؟، فإنّ هنالك قولاً أهمّ منه، حتماً، هو إن هذه الرواية منتسبة بامتياز للرواية العربية، مصطلحاً ذا مفاهيم، حيث هي عنوان قارٌّ: ليس من شأنه أبداً أيُّ تاريخ لأدبها كالإصرار

الدوني للسرد المتأثر، في الدارج القديم، بروايات الأوربيين: فقد ظهرت بوادر الرواية العربية بعد ظهور الرواية في أوربا على ما يربو من القرن، وذلك على أيدي سليم البستاني وجرجي زيدان وغيرهما. «باسم صالح حميد».. بل له الشأن كلّه في نظريتها للأدب كالإقرار الفوقي بالبديل المتجاوز، عبْر المعلَن الجديد، لأُطر التقليديين: لقد تجاوزت الرواية العربية «…» موقف الامتثال للمركزية التاريخية الذي عبر عنه جرجي زيدان في رواياته التاريخية والذي كان يعطي الأولوية للتاريخ على حساب الفن، «فاضل ثامر». أي أن المقصود بها، هنا، ما هو ملخّص من «محمد معتصم» بالمبدأ الآتي: الرواية العربية اتجاهان كبيران، الاتجاه الأول ينحدر من نبع نجيب محفوظ «…» والاتجاه الثاني يمثله إدوار الخراط. فهذان الاتجاهان الكبيران للرواية هذه، التي تعيش عصراً ذهبيّاً، يعنيان لـ «عشي نصيرة» أنها: استجابت لحاجات الجماعة الرامية إلى التحرر من سلطة اللغة التي تجلت في الشعر. إذ أن رواية كهذه، بهذا القدر من الاستجابة لهذي الحاجات الجماعية، لا بدَّ من تمتّعها بفضاء روائي فذٍّ (ليس فقط كانشغال أدبي أو جمالي، بل كذلك كانشغال ثقافي «…»، لأن المثقف العربي «…» ما زال مُطالَبا بأن يعيش الفضاء كعلائق، وأن يعيشه أيضا كجغرافيا/ «حسن نجمي»). فمن أسباب مَواطنها الضعيفة، قُبيل هذا التمتّع الضروري، ثمة المسمّاة من «نجم عبد الله كاظم» بـ الأسباب الخارجية: ما يمسّ طبيعة جنسنا أو إنساننا أو مجتمعنا العربي عموماً، والوسط الذي نشأ أو ينشأ فيه هذا الفن، وهذه لا تكاد تكون موجودة الآن بعد تجاوز الرواية العربية لهذا الواقع بنهضتها في الربع الأخير من القرن العشرين. ولعلّ من أبرز العلامات المستقبلية لتجاوزها ذاك، بوصفه ماضياً أمسيّاً قريباً، ما يشهده حاضرها اليوم من تزايد في منجزها الإنتاجي الانفجاري، اللافت لأنظار نقاد عرب كثيرين، وقد (رافق هذا التزايد «…» تمردها على أشكال قارة وثابتة، فشهدت بذلك تحولا في البنية والشكل والموضوع، «ماجدة هاتو هاشم»). لذلك اتّسمت بهذا التحول روايتنا العراقية، المنتسبة الامتيازية لها، إذ فيها بضع مغايرات أدبية متنية: لا حكائية توريث بل سردية تثوير، لا تجريب تحت اختبار بل تجربة فوق خبرة، لا انشغال بتأسيس بل اشتغال لتأسيس، لا سير على سطح مكان بل غوص في عمق زمان، لا بطل جزء بل أبطال كل.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *