الهيكل العظمي للنخلة

الهيكل العظمي للنخلة
آخر تحديث:

لؤي حمزة عباس

من التجارب الجديدة على ساحل الشعرية العراقية، تجربة الشاعر حسين عودة، وقد صدرت له مؤخرا عن دار خطوط الأردنية مجموعة بعنوان (الهيكل العظمي للنخلة)، وصلتني ممهورة بإهداء صاحبها، وهو يحدّثني عن الصورة «التي رآها من هذه المدينة»، بما يحمل الإهداءُ من وعدٍ، بأن رائياً يتنفّس بين سطور القصائد ويحلم بأن يُعيد للشعر وظيفته الجوهرية، فالشعر، على الدوام، قرين الرؤية والمعبّر الأمثل عن عوالمها، وهو خلاصة الوعي التي ترسم للعالم صورةً تزيد معرفتنا بما نحسه ونراه، وبغير رؤية الشعر تبقى رؤيتنا لذواتنا وللعالم قاصرةً ومحدودة، إن القصيدة مادة الشاعر لتحقيق معرفةٍ أعلى بما يرى ويعيش، وربما كانت رؤيته تلك محضَ حلمٍ يكشف ضوء العالم ويحدّد خلاصاته. ومثلما يعمل الشاعر على تخطيط هيكل عظمي للنخلة يخطط هيكل مدينته، فلطالما عُدّتِ النخلة ظلاً للمدينة بعد أن كانت روحها وعلامتها، وقد انشغل الشاعر برسم هيكل عظمي لكلٍ منهما، بعد ما شهدته كلٌّ منهما من أحداث وملمّات، فما عادت المدينة بيتاً للنخل، وما عادت النخلة روح المدينة الفتية ونشيدها الصاعد إلى السماء، ذلك ما تؤكده عتبة المجموعة وهي تُضيء مشبهاً به «مثل أغنية في حنجرة عصفور ميت»، وتترك المشبه هائماً في بياض المعنى، ربما يكون هو المدينة أو النخلة أو الهيكل العظمي، وربما كان المجموعة الشعرية نفسها، وبما كان مزيجاً من ذلك كله يصعد في سماء المدينة مثل أغنية حزينة..

تنشغل المجموعة بالتعبير عن مشاعر خوف ترتسم على الوجوه في ليل المدينة الطويل، مثلما تنشغل باستعادة ظل طائر ميت يتنقل بين القصائد، إنه يقترب من صورة المدينة وحياة أناسها اقتراباً خطراً، ويختار من أماكنها ما يمنحه القدرة على الإنصات لصوتها الخفي وهو ينبثق من شارع وحديقة حيوان ومقبرة، ليتجلى في ساحة سعد، كراج المدينة وسرّة عالمها السفلي، باحثاً عن نهرها البعيد الذي لا يُرى، إن خطى الشاعر تقوده إلى «قبر من الملح»، وليس من المستغرب أن تقودنا تجارب البحث عن الأنهار البعيدة إلى أضدادها: النهر يقود إلى القبر، والطير يقود إلى سماء مهجورة معتمة، إنها أدلّة الظلام التي تهيم في عماء، هكذا تواصل مجموعة حسين عودة البحث عن «النهر الذي في داخلك»، لكن البحث لا يفوز بغير طين الوحدة الذي ينحت تماثيل أيامنا وقد غدا الطير جثةً في الخزانة، مستعيداً صوت الشاعر البصري حسين عبد اللطيف وهو يحدّثنا عن البلبل الميت بين الثياب، وأصبح النهر جداراً مغلقاً، والعالم مكعباً يبدأ من باب مقبرة، حيث تنقلب الصورة ويلتبس المشهد، ويصبح الشاعرُ حقيبةً تحمل طفلاً، وتواصل المشي حتى تضيع بين الشواهد المغبرة، ثمة بداية دائمة تكسر غصناً وتُطلق خيط مرارة يتحرّك من أولى قصائد المجموعة إلى آخرها، وبهذا الخيط يؤثث حسين عودة عالمه بصمت أقرب إلى الشجن، وإحساس واضح بانكسار الصورة التي لم تبقِ للمدينة ما يعبّر عن فتنتها وأحلام فتوتها، إنها فسيفساء الظلام تقود يد الشاعر لكتابة ما يراه من المدينة التي لم تعد غير هيكل عظمي لنخلة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *