حناجر الثقافة العراقيَّة تفصح عن مضامينها؟

حناجر الثقافة العراقيَّة تفصح عن مضامينها؟
آخر تحديث:

استطلاع: صلاح حسن السيلاوي

منذ رفرفت أجنحة الكلام في سماء البصائر كان الحزن العراقي، منذ صدحت حناجرُ المغنين في بلاد سومر وبابل وآشور كانت أرواحُ الألحان، تحط على آذان العالم باكيةً، تنضحُ عيونها فقدا. منذ لامسَ الرافدينيُّ الطينَ ليكتب لوح بقائه وخلوده، منذ نحتَ وجوهَ ملوكِهِ ورموزه، كان الدمع يقول عنه ما يريد. عن هذا كله، عن حزن العراقي الذي ما زال يسطع في ثقافته تساءلنا هنا حزن تراكمي .

الشاعر رزاق الزيدي يرى أن واحدا من اهم اسباب اتساع دائرة الحزن في الثقافة العراقية هو أن اغلبية مبدعي البلاد ينتمون الى الجنوب والوسط، وهؤلاء كما أثبتت الأنثربولوجية وعلم الوراثة من السومريين الذين سكنوا تلك المناطق قبل أكثر من خمسة آلاف عام. ومضى الزيدي مبينا أن ثمة تقرير لعالم روسي مختص بعلم الوراثة أكد أن 81 % من سكان تلك المناطق أي (الوسط والجنوب) من سلالة النبي إبراهيم الخليل (ع) السومري العراقي، وأضاف موضحا: من هنا نستطيع القول بأن هناك حزنا تراكميا يمتد عبر الأزمان لتلك الجينات السومرية الأولى، إذ كان هذا الحزن موجودا على هيأة ما نسميه حاليا (النعاوي) فكان الانسان يسمعه يبعث من المعابد حين يمر بجوارها كما يقول الباحث الراحل حسين الهلالي في دراسة له عن الأطوار أو كما في قصائد السومريين كالشاعر (دانجو أدامو) ولأنها مناطق مائية على حافة الصحراء فهي تتعرض للنكبات دوما أما بسبب الفيضانات التي تقضي على كل أسباب حياتهم أو بسبب غزوات الصحراويين الغلاظ القلوب، كما إن الصوت في الماء يصبح شجيا يؤدي ذلك لتراكم حزن شفيف وأسباب أخرى كثيرة لايتسع المقام لها هنا.

دين وسياسة

الروائي احمد الجنديل أشار إلى ملازمة الحزن للواقع العراقي منذ زمن بعيد، حتى أصبح مرافقا للصوت والقصيدة والسرد والفن، لافتا الى أن أهم الأسباب التي كانت وراء ذلك تتلخص بالعاملين الديني والسياسي، وأكد الجنديل قائلا: التقلبات السياسية وما رافقها من خيبات انعكست على الثقافة العراقية، كما أن العامل الديني وفجيعة مقتل الامام الحسين وغيرها من الحوادث التاريخية المؤلمة صبغ السلوك العام بلون الحزن. هذه الظاهرة الخطيرة تحتاج الى وقفة جادة والاهتمام بنشر ظاهرة الفرح ابتداء من رياض الأطفال وتشجيع الجميع على إيجاد وسائل تخفف من حدة ما يعاني منه الجميع.

أناشيد السومريين

الشاعر عمر الدليمي قال: منذ مطلع الحضارة السومرية حاول العراقيون البحث عن الخلود، وكلنا نتذكر ما قرأناه من احداث ملحمة كلكامش، لكن الفشل في هذا المسعى افضى الى حزن الانسان على مصيره؛ لذلك جاء العديد من أناشيد واغاني السومريين والاكديين والبابليين محملا بالحزن، ولنا في اسطورة نزول تموز للعالم السفلي مثالا. فتوارث العراقيون هذا الحزن من أسلافهم ورغم التغيرات في البنية الثقافية للمجتمع ومجيء الإسلام إلا أن سمة الحزن لم تتغير بل ازدادت رسوخا مع واقعة استشهاد الامام الحسين عليه السلام التي باتت مناسبة يحييها العراقيون كل عام بإقامة مجالس العزاء التي تنشد فيها المراثي الحزينة، وهناك عوامل أخرى أسهمت في طابع الحزن الذي يسم الشعر العراقي والاغاني وتتمثل هذه العوامل بالطبيعة المناخية الصعبة والمتقلبة التي تركت تأثيرها على التكوين النفسي للعراقيين والأهم من ذلك هو ما تعرض له العراق من غزوات تدميرية من قبل الاقوام المجاورة عبر العصور التي خلفت القتل والدمار وتعاقب الحكام الطغاة على السلطة والبطش ضد الخصوم كل هذا أدى الى شيوع الحزن في ثقافة العراقيين.

أساطير الشخصيَّة العراقيَّة

الباحث والناقد صباح محسن كاظم قال: العراقي قرينه الحزن، من التاريخ وأساطيره الأولى تتدفق كمية الأحزان على الشخصية العراقية، التي تمتح بوجودها الرافديني، وبيئتها المائية والطينية أناشيد حزنها، وقصائد عشقها، ومراراتها، وخيباتها، – وأفراحها- النادرة التي يشوبها صخب عال للتعويض عن الحزن المكنون بالشخصية العراقية الجادة المتألمة. للفقد مذ فقد كلكامش صديقه أنكيدو، وبحث عن عشبة الخلود التي سرقتها الأفعى، وكل كمية الحزن الهائلة من الطوفان وقصة نوح، ويوسف إلى تراجيديا الطف. كل تلك المشاعر والأحاسيس نجدها بالغناء العراقي الريفي في بحة داخل حسن. أو أنين حضيري، أو بالشدو الحزين لحسين نعمة في (يا حريمة). أو (غريبة الروح). في ملتقى الناصرية لعماد العبادي سألت قبل سنوات باحتفاء بالموسيقار الكبير طالب القره غولي. لماذا هذا الحزن بمقطوعاتك وأغانيك؟ أجاب إن الحزن متجذر بالشخصية العراقية من بداية الخليقة، إلى العنف من الطغاة، وآخرها سلوك داعش الذي أثكل الزوجات، وفقد الأبناء فالنواح تاريخي متأصل، وكما قال الشاعر بدر شاكر السياب: في معظم قصائده ودواوينه: ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوع. على الرغم من غناه.

جذور تاريخيَّة

الشاعر حاتم عباس بصيلة قال: للحزن جذور تاريخية تغلغلت في حياة العراقي الذي طالما كثرت مآسيه وفقد أحبابه، وهذا يثير التساؤلات الكونية حول الموت والفناء، وقد تجلى ذلك في اسطورة تموز وغدر عشتار به بتسليمه للعالم السفلي وشعورها في ما بعد بالندم عليه، فكانت الطقوس المأساوية التي تشبه طقوس عاشوراء في شعور الانسان بالندم بعد الخذلان، وقد وجد لوح فيه رسم لامرأة منثورة الشعر وهي تلطم في العراق القديم، وتساءل كلكامش تساؤلات مرة حول الموت والفناء وخلود الانسان بعد فقدان أنكيدو ورثاهُ أروع رثاء، وتأتي مأساة الحسين شاهدا آخر على فقدان المحبوب وخذلانه والندم في ما بعد، ثم ان العراقي كثير الفقد بسبب الحروب وقد سميت أرض العراق بهذا الاسم في واحدة من معانيها لكثرة المعارك فيها للسيطرة على الثروات، فكانت الآه العراقية والحزن المتفرد عبر التاريخ، كما تميزت هذه الارض بكثرة المتسلطين وهم يستغلون الشعب ابشع استغلال فكان الفقر والظلم والمرض، فكان الانسان حزينا في غنائه وشعره وفنه المتعدد الأشكال.

إرث الأسى العظيم

الشاعر عبد الحسين بريسم قال: لا يبتعد المثقف العراقي بالطبع عن الحزن لأنه صورة من مجتمعه. ناهيك عن طغيان الحزن على الابداع بصورة عامة؛ لأن الأخير ينبع من الحزن وكل الاعمال الابداعية المهمة خرجت من معطف الحزن، فالتاريخ العراقي مشبع بالويلات والحروب منذ واقعة الطف حتى اليوم، وأعتقد أن غلبة الحزن على الاعمال الادبية والفنية يأتي من هذا الارث العظيم، فكيف نكتب بعيدا عن هذا الالم الذي ورثناه من اجدادنا، ومازلنا نورثه للأجيال المقبلة، كل ما يحدث يثير الحزن حتى المشاهد اليومية مازالت كما هي لافتات سوداء تنعى الراحلين والأحياء على حد سواء، واعتقد ان العمل الإبداعي لا يمكن ان يتجاوز تاريخا طويلا من الحزن ويكتب عن لحظات فرح عابرة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *