هل يواجه المشهد الثقافي المناطقيَّة أم يسايرها؟

هل يواجه المشهد الثقافي المناطقيَّة أم يسايرها؟
آخر تحديث:

صلاح حسن السيلاوي 

أصبحت المناطقية بمعناها الجغرافي والمعنوي تغلف كثيرا من الفعاليات الثقافية وتتغلغل في تفاصيلها، بأسلوب يبتعد بعضُه أو كلُّه عن مفاهيم الوطنية وتوحيد الانتماء لروح الوطن والإنسان، حتى أن المناطقية بمعناها القبلي أو العنصري أو القومي صارت جزءاً مشوّهاً من سياقات مشهدنا الثقافي الأدبي، وصار من الواضح على كثير من مثقفينا وأدبائنا اهتمامهم المنحاز لثقافات مدنهم او دياناتهم او قومياتهم بطريقة قد تصل أحيانا إلى شبه العزل الثقافي لمناطق لا ينتمون إليها على الرغم من مشاركة تلك المناطق الهموم والمشكلات والمصائر ذاتها.  

هل المناطقية بتناول ثقافات المدن وخصوصياتها أصبحت عذرا شرعيا لصناعة انتماء مجاور او بديل لانتماء الهوية الوطنية؟، أليس تفشي المناطقية بمفاهيمها السلبية في الواقع الثقافي وبين نخبه ظاهرة تحتاج إلى حلول ستراتيجية ومهمة وكبيرة؟، تلك الظاهرة التي منها: كتابة الأدباء في منطقة واحدة عن بعضهم، واهتمامهم بما يكتب وينشر ويظهر فيها، على حساب غيرها من المناطق ومبدعيها. هل تكرّس بعضُ المدن وبعضُ فعالياتها ذلك.

الشاعر عبد المنعم القريشي يرى المشهد الثقافي العراقي منقسما على نفسه، مشيرا إلى أن جزءا من هذا الانقسام هو أن أدباء ومثقفي العاصمة ينظرون إلی أدباء ومثقفي المحافظات على أنهم مثقفون من الدرجة الثانية، ومرد ذلك  إلی المناطقية أولا، وارتباط مثقفي العاصمة بعلاقات الصداقة والمجاملات، وبعد مثقفي المحافظات عنهم ثانيا، على حد تعبيره، وأضاف القريشي قائلا:  وهذا بمجمله انعكس على واقع الثقافة وتبادل الأدوار، فمثقفو بغداد يعتبرون أنفسهم هم ممثلو الثقافة العراقية، والعكس صحيح، إذ يتهمهم مثقفو المحافظات بالسطحية والمجاملات، وبنظرة بسيطة إلی ما ينشر في الصحف والمجلات والدعوات إلی المهرجانات يؤشر ذلك جليا لصالح مثقفي العاصمة.

فضلا عن عزل شريحة كبيرة من المثقفين العراقيين، من غير القومية العربية ومن الاقليات، من دون التعريف بهم عن طريق الترجمة، فالمثقف العربي لا يعرف الا النزر القليل مما يدور في الساحة العراقية في شمال الوطن، على الرغم من أنهم ينتمون إلی الأرض العراقية.

وقال ايضا: وعلى هذا الأساس فأدباء بغداد يعتبرون أنفسهم (ثقافة المركز) ومثقفي المحافظات (الهامش) إذا جاز لنا هذا التقسيم، مما دعا مراكز انتاج الثقافة في المحافظات إلی اقامة مهرجانات ومؤتمرات ذات خصوصية مناطقية، مثل مهرجان مصطفى جمال الدين في ذي قار، وعالم الشعر في النجف، والمربد في البصرة، والكميت في ميسان، والمتنبي في واسط والرصافي في الانبار، وهنا تبرز مسألة الاخوانيات والمجاملات على حساب الثقافة الموحدة.

وعلى الرغم من أن ما يعانيه المثقف في محافظات العراق كلها ومن ضمنها العاصمة لا يختلف من محافظة إلی أخرى ومن قومية إلی أخرى.. وعليه يجب ان يلتفت صناع القرار الثقافي إلی هذا الامر بتوحيد الثقافة واعتبارها كلا لا يتجزأ، في الداخل على الاقل.

الشاعر نبيل نعمة أشار إلى عدم انتهاء تحولات سيسيولوجيا العراق بعد التغيير بالطائفية، بوصفها الوحيد أنها ابنة التاريخ والسرديات التي سبتت لقرون ثم نهضت بفاعل سياسي فجأة، كما أنها لم تنهض لتختفي من دون انشطارات وانعكاسات وظلال ومرايا، على حد قوله.

وتحدث نعمة عن تخفي واندماج وتداخل في مفاصل الحياة كافة، مبينا أن ذلك وارد ومحتمل، لكنه حين يصل للثقافة، يكون الأمر قد بلغ حدا خطيرا يستدعي الاستيقاظ من غفلة لن يسامحنا -إن صمتنا- عليها التاريخ. 

وأضاف قائلا: واحدة من أخطر هذه التحولات تبني المثقف للمناطقية، بما تحمله هذه الكلمة من أوجه سواء كانت مكانية أم زمانية، مناطقية تؤسس لثقافة اقليم ولون وقومية، مخرجاتها تجبرنا على قبول أن يكون الشاعر كرديا أو فراتيا أو جنوبيا، ومناطقية تذهب باتجاه مهرجانات مدن تستنهض أيقونة من التاريخ ثم تصدر فكرة ضيقة عن المهرجان من دون ربطه بهوية الوطن، ومناطقية لمثقفين تملؤهم الغبطة حين يُشار في وضعهم بين الهامش والمركز، المناطقية وصلت لشبكات التواصل الاجتماعي، معها لم يعد الحديث مجد عن الكونية، وتكسير الحدود والخروج للعالم وتحطيم الزمن. 

أعتقد أن المناطقية بوصفها هذا لم تكن لتخرج بكل هذه الصور لو كانت الدولة مؤسسة على وفق مشروع ونظام، الخلل هنا من الفوضى التي اعمت الجميع وأدخلتهم في ظلامها، وأعتقد كذلك لو بقي الأمر على ما هو عليه سيستمر مسلسل التحولات لما هو أكثر عنفا وأشد خطورة من الطائفية وبناتها. 

الشاعر الدكتور عقيل حبيب تحدث عن حضور المناطقية عبر مستويات عديدة في المشهد الثقافي العراقي وهي مستويات سلبية في غالبها على حد وصفه، مشيرا إلى عدم سعي الدولة إلى فهم المشكلات التي تواجه الحياة الثقافية في البلاد مستغربا من غياب إقامة الدولة لمؤتمر مهم لمناقشة أسباب تفشي ثقافة التطرف الديني في بعض المناطق، وأسباب تراجع المجتمع العراقي عن مفاهيم المدنية في مناطق كانت تشهد مدنية لا بأس بها وصارت موطئا للنزاعات العشائرية المسلحة. 

لافتا إلى تراجع عمل المؤسسات المعنية بالثقافة التابعة للدولة ومنها وزارتا الثقافة والتعليم والجامعات العراقية، مؤكدا على ضعف مواجهتها لمفاهيم التردي، المواجهة التي يجب أن تكون بمستويات تليق بأهمية تلك الجامعات والوزارات وثقلها في المجتمع.  

وأضاف حبيب مبينا: نستطيع القول بوضوح أن أدباءنا ونقادنا يتعاملون في الغالب بطريقة مناطقية فكثيرا ما يكتب النقاد او الشعراء أبناء المحافظة الواحدة عن بعضهم بأسلوب منحاز، ويحدث مثل هذا الانحياز بين أبناء القومية او المذهب أو الطائفة أو المدينة، وهذا برأيي ينذر بتفتيت كبير للهوية الوطنية. 

صار المتفحص لمشهدنا يمكن أن يلاحظ بوضوح نَفَسا ثقافيا لهذا الانتماء أو ذاك أو لهذه المجموعة أو تلك من قوميات او أديان او طوائف او مدن او مناطق معينة. أرى وبكل وضوح أن ثمة مناطقية ثقافية تتجاوز حدودها الصحية، وهي ظاهرة تحتاج إلى حلول دولة ولا يجب النظر لها ببساطة وبتهاون أبدا. 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *