آخر تحديث:
بقلم:د.كاظم حبيب
لقد مرَّ حتى الآن أكثر من 18 سنةً على وجود الأحزاب الشيعية الطائفية الفاسدة حتى النخاع على رأس السلطة التنفيذية وهيمنتها الفعلية على السلطتين الآخرتين للدولة العراقية ، التشريعية و القضاء ، وتحكمها المستمر بالقوات المسلحة الرسمية والقوات الموازية المتمثلة بالميليشيات الشيعية المسلحة والحشد الشعبي ، وعبر كل منشآت ومكاتب الدولة العميقة السرية الفاعلة التي تقودها إيران وأتباع إيران في العراق. وبناء على قرار من الجنرال الإيراني قاسم سليماني والدكتور أحمد الجلبي ظهر “البيت الشيعي!” بهدف تعبئة أتباع المذهب الشيعي حوله ليكون صمام أمان في تعاون الأحزاب الإسلاموية الشيعية وتأمين تضامنها والحفاظ على وحدة قراراتها واستمرار هيمنتها على جميع مفاصل البلاد الأساسية ، واستمرار تبعيتها المباشرة لإيران وقائدها الديني السياسي و “ولي الفقيه: علي خامنئي أو من يحل محله بعد وفاته ، وعبر سليماني أولاً ومن ثم العميد إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس الإيراني . واستناداً للوثائق المتوفرة فأن القوى التي شاركت في بنية “البيت الشيعي” الطائفي انسلخت كلها دون استثناء من تحت عباءة الحزب الفاطمي الذي تأسس في العام 1959 لمناهضة ثورة 14 تموز 1958 ومنجزاتها الاقتصادية والاجتماعية ونهجها السياسي الديمقراطي ، وساهم بشكل مكشوف في التآمر المعلن ضد الجمهورية الأولى ومنجزاتها ، لاسيما قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959. كما عمل هذا الحزب وبدعم من قبل المرجعي الشيعي حينذاك محسن الحكيم بإصدار الفتوى القبيحة والعدوانية القائلة بأن الشيوعية كفر وإلحاد في العام 1962 ، وبالتالي ، تحريم العمل في الحزب الشيوعي العراقي ، ثم المشاركة في التحالف الرجعي المحلي والإقليمي والدولي في التحضير وتنفيذ الانقلاب القومي الرجعي والفاشي الدموي في 8 شباط/فبراير 1963 ضد الجمهورية العراقية الأولى.
وفي الثمانينيات من القرن الماضي انسلخت جماعات أخرى من الحزب الذي سُمّيَ بعد ذاك بـ “حزب الدعوة الإسلامية” لتتشكل منه وعنه أحزاباً وكتلاً دينية شيعية طائفية منها على سبيل المثال لا الحصر “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ، الذي تأسس في طهران عام 1982 بقيادة محمد باقر الحكيم وشكلت له إيران ميليشيا خاصة أطلق عليها “فيلق بدر” . وكان هذا الفيلق خاضعاً بالكامل لقيادة الحرس الثوري الإيراني ، وكان عراقياّ برئاسة عبد العزيز الحكيم ، شقيق محمد باقر الحكيم . لم يستطع هذا الحزب ، كما أراد له الإيرانيون تجميع كل القوى الشيعية تحت رايته ، بسبب الصراعات الدائمة بين قادة هذه الأحزاب ورغبة كل منها في السيطرة على الحركة الإسلاموية الشيعية العراقية وقيادتها حين كانوا في المعارضة في كل من إيران وسوريا ولندن .
بعد إسقاط الدكتاتورية الغاشمة عبر الحرب الخارجية عام 2003 بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وتحالف دولي خارج الأطر الشرعية لمجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة ، سَلَّمتْ قوات الاحتلال قيادة السلطة في العراق بيد الأحزاب الشيعية التي مارست كل ما في حوزتها من إمكانيات وبدعم مباشر من المرجعيات الشيعية ومن قادة إيران ، إعادة بناء القوات المسلحة العراقية ، الجيش والشرطة والأمن الداخلي عل أسس طائفي مناقضة لكل الأعراف الدولية واللوائح الأساسية لحقوق الإنسان ، إضافة إلى دورها في تحويل أجهزة الدولة المدنية لصالحا وبأيد قوى منها.
بعد سنوات من هذا العمل في تكريس النظام السياسي الطائفي الفاسد بدا لهذه الأحزاب الإسلاموية وكأن الوضع قد استقر لهم تماماً ، حتى صرح رئيسهم الذي علمهم السحر في 25/01/2013 ، في أعقاب أحداث مطالبة بإصلاح الأوضاع وتقديم الخدمات الضرورية للمجتمع بما يلي رداً على هوسة تطالبه بالتمسك بالحكم : “هو يگدر واحد ياخذها حتى ننطيها بعد” !! يبدو أن هذا السياسي بضحالته الفكرية والسياسية وأمثاله يعتقدون دون حياء بأن العراق “ملك طاپو” لهم لا يمكن إعادته للشعب ليقرر من يحكم البلاد ، وبأي نظام سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وبيئي يريدون العيش الكريم والحر والديمقراطي فيه!!
ولكن سرعان ما دبت الخلافات والصراعات بين أقطابها مجدداً ، فتشكلت كثرة من الكتل والأحزاب الشيعية الطائفية ، سواء أكانوا من حزب الدعوة الإسلامية ، أم من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية ، أم من القوى الإسلاموية الأخرى كحزب الفضيلة واستمرار عمل حزب العمل الإسلامي ، أو جماعة مقتدى الصدر ، التي انسلخت عنها مجموعات من الكتل الأكثر تشدداً . كل هذه الأحزاب والقوى وبدعم مباشر من إيران وبدور فعال وإشراف من الجنرال قاسم سليماني ، أقامت لها منذ العام 2003 ميليشيات مسلحة مفرطة في الشراسة والعنف ، لا تختلف بأي حال عن قوى الإرهاب السياسي لتنظيم القاعدة أو لتنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي (داعش) . وقد أصبح العراق في فترة حكم نوري المالكي 2006-2014 غنيمة سهلة له ولكل قوى الإسلام السياسي الشيعية ، واحتدم الصراع فيما بينها على خمس مسائل مباشرة :
1) مَن مِن هذه القوى يستطيع السيطرة على أكبر حصة ممكنة من سلطة الدولة التنفيذية ، ومن خلالها الهيمنة على السلطتين التشريعية والقضاء ؛
2) مَن منهم يستطيع ، عبر وجوده في السلطتين التنفيذية والتشريعية ، تحقيق أعلى المكاسب المادية والمالية لحزبه وله شخصياً على حساب المال العام وقوت الشعب ؛
3) مَن منهم يستطيع تشكيل أكبر وأقوى الميليشيات الشيعية المسلحة لفرض هيمنتها على المناطق التي تسيطر عليها ومن ثم على البلاد بأسرها ؛
4) ومَن منهم ، وعبر هذه المواقع المهمة التي يحرزها ، بمقدوره السيطرة على إدارة البنك المركزي العراقي ، وتأمين الحصول على أقصى ما يمكن من أموال الدولة السائبة وعبر مختلف الأساليب المشروعة شكلاً وغير المشروعة من خلال ترويج وتوسيع الفساد ليكون الأسلوب السائد في البلاد ، لاسيما مزاد العملة الصعبة والمقاولات الحكومية وشراء الأسلحة وبيع النفط الخام خارج الطرق الرسمية ؛
5) من يمكنه تقديم أقصى الخدمات لإيران والخنوع الفعلي في تنفيذ مصالحها والقبول بما ترسمه للعراق من سياسات داخلية وخارجية ، ليكون صاحب الحظوة لدى مرشد إيران والقيادة الإيرانية المدنية والعسكرية .
وفي ذات الوقت ، وبعد فترة زواج غير كاثوليكي ومساومات ، مع الأحزاب والقوى السنية ومع الكرد ، دبت الخلافات أيضاً ولم تخرج عن سياق ما أشرنا إيه في أعلاه ، مما زاد في تعقيد اللوحة السياسية في البلاد .
هذا الواقع المزري أدى إلى عواقب سلبية حادة لم تبدِ هذه الأحزاب في حمى نهبها لموارد البلاد ، أي اهتمام بها ، بل واصلت نهجها المختل والمرسوم لها مع إيران مباشرة. وكان الحصاد صارخاً ومدمراً لمصالح الشعب والوطن :
-
إدارة سياسية فاشلة وعاقة في حكم البلاد ، إذ أصبحت الوزارات ملكاً للأحزاب الحاكمة وحكراً عليها ، إذ حُرِمَ عملياً توظيف أي مواطن ومواطنة في أي موقع في سلطات الدولة الثلاث ومؤسساتها وهيئاتها المستقلة والقوات المسلحة بكل أصنافها ما لم تكن المواطنة أو المواطن تابعين أو مؤيدين لهذا الحزب أو ذاك أو مرتبطين بميليشياتها الطائفية المسلحة ومكاتبها ونشاطاتها الأخرى ؛
-
وأصبحت الوزارات ومجلس النواب والقضاء والقوات العسكرية مواقع أساسية لترويج ونشر الفساد الذي التهم المزيد من المليارات من دولارات النفط العراقي وحَطَّتْ في حسابات وجيوب النخب الحاكمة والمتعاملين معها من جهة ، وأهملت بالكامل إقامة المشاريع التنموية ، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية ، ولاسيما الخدمية كالكهرباء والماء والتشغيل ، وأصبحت موقعاً لمزيد من النهب والسلب لموارد البلاد المالية من جهة ثانية ؛
-
وقادت سوء الإدارة والفساد المستشري في سلطات الدولة الثلاث وفي المؤسسة العسكرية بكل أصنافها أولاً ، ونهج التمييز الظالم بين المواطنات والمواطنين على أسس قومية ودينية ومذهبية (طائفية) وفكرية وسياسية ثانياً ، والمظالم التي حلت بالمجتمع والقتل على الهوية ثالثاً ، ومواجهة مطالب الشعب بالعنف والسلاح والرصاص الحي الحكومي والميليشياوي رابعاً ، إضافة إلى الصراعات المباشرة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم خامساً ، إلى تعرض مناطق من العراق (خمس محافظات عملياً هي : نينوى والأنبار وصلاح الدين وأجزاء من كركوك وديالى ومخاطر تهدد كل العراق بما فيه بغداد وإقليم كردستان العراق ) لغزو عصابات داعش الإرهابية ومن ثم احتلال تلك المناطق وممارسة الإبادة الجماعية بحق سكانها ، لاسيما أتباع الديانة الإيزيدية وتشريد المسيحيين والتركمان والشبك ومن يقف ضدهم من أتباع المذهب السني ؛
-
إن النهج المدمر للقوى الحاكمة أدى إلى اتساع متفاقم في فجوة الدخل السنوي ومستوى حياة ومعيشة وإمكانية الحصول على الخدمات بين النخب الحاكمة من جهة ، ونسبة عالية جداً من بنات وأبناء الشعب العراقي من جهة أخرى ، مما زاد في حالة الاستياء الشعبي وشدد من الصراع بينهما وقاد إلى المزيد من الاضرابات والاحتجاجات المدنية والمطالبة بتغيير نهج السلطة التنفيذية ومجلس النواب والقضاء. ومما ساهم في عمليات الاحتجاج تنامي وعي نسبة مهمة من شبيبة المجتمع بما جرى ويجري في العراق ، فكانت انتفاضة الشبيبة والشعب في تشرين الأول/أكتوبر 2019 ضد سياسات نظام الحكم والمطالبة بتغييرها ، ومن ثم بتغيير نظام الحكم كله . لقد كانت انتفاضة شعبية شجاعة ساهم فيها النساء والرجال وقدموا أغلى التضحيات من أجل إنقاذ العراق من براثن الطائفية ومحاصصاتها وفسادها ومن تبعيتها المباشرة للأجنبي الإيراني على نحو خاص ؛
-
كل ذاك قاد إلى عملية موضوعية ، حيث بدأ التفتت والتشتت في الإدارة الحكومية والقوات المسلحة التي تسيطر عليها هذه الأحزاب الإسلامية السياسية وغيرها ، مما قاد بدوره إلى تفريخ مستمر لدى هذه الأحزاب الإسلاموية الحاكمة ببروز المزيد من التكتلات والأحزاب والميليشيات الولائية لإيران ، والتي استوجبت مزيداً من الصراعات في تقاسم الغنائم ، إذ أصبح العراق كله وأمواله المنقولة وغير المنقولة عرضة للتجاوز والمصادرة والنهب والسلب المباشرين ، إضافة إلى نهب المورد النفطي ذاته ، دع عنك إيراداته المالية ؛
-
وفي خضم سياسات النهب المستمر لموارد البلاد المالية ، نست أو تناست الحكومات التي تقودها هذه الأحزاب الإسلامية السياسية والقوى المساومة معها ، عدة مسائل أساسية ، منها بشكل خاص : ضرورات التنمية الاقتصادية وأهمية توفير فرص عمل للعدد المتراكم سنوياً من العاطلين عن العمل ، ومنهم خريجوا الدراسات المتوسطة والثانوية والمعاهد الفنية والمهنية والكليات والجامعات، وتوفير الخدمات الأساسية ، لاسيما الكهرباء والماء والصحة والتعليم ..إلخ ، والفجوة المتسعة في الدخل ومستوى المعيشة والحياة وتفاقم الفقر ليرتفع من هم تحت خط الفقر إلى أكثر من نصف السكان في بلد غني بثرواته النفطية ، وملئ بالحكام الحرامية .