في مطلع عشرينيات القرن الماضي توصل الباحث النرويجي “ثورليف شيجلديروب” إلى أن الدجاج الذي يعيش في مجموعة واحدة يحكمها هيكل متدرج ونظام اجتماعي هرمي ، يتم فيه ترتيب قطيع الدجاج على حسب الهيمنة، حيث دائماً ما توجد بالمجموعة دجاجة لها الحق في نقر جميع الدجاجات الأخريات، ولكن لا يُمكن نقرها من أي دجاجة أخرى.
أما الدجاجة الثانية في الترتيب الهرمي، فيُسمح لها بنقر جميع الدجاجات إلا دجاجة واحدة (التي تسبقها في الترتيب)، وأيضاً لا يمكن نقرها إلا من قبل الدجاجة الجالسة على قمة الهرم، ويستمر الترتيب بهذا الشكل حتى يصل إلى قاعدة الهرم، حيث توجد دجاجة يستطيع الجميع نقرها ولكنها لا تملك نقر أي دجاجة.
تم توثيق هذه الظاهرة تحت المصطلح الألماني “Hackliste” وتم ضمها في عام 1927 إلى معجم اللغة الإنجليزية تحت مسمى “Pecking order” أو “ترتيب النقر”، ومنذ ذلك الحين، غالباً ما يستخدم مصطلح “ترتيب النقر” أو ما يمكن وصفه بـ”التسلسل الهرمي” في تناول وشرح التقسيم الاجتماعي في البشر ، وعلى الاخص في النظم الديكتاتورية .
يحدث ذلك لكون ثقافة “ترتيب النقر” تجعل الاعتقاد سائدا أن الطريقة الوحيدة للنجاح في الادارة والسياسة تتم من خلال قمع الآخرين ، وهو ما يدفع بعض المتنفذين من استخدام سلطتهم لخدمة أنفسهم على حساب الجميع ، بل وتصادر حرية الآخرين واغتيالهم سياسيا ومعنويا.
ان هذه النظرية تذكرني بنظام الحكم السابق للاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 . حيث التدرج في النقر من اعلى السلطة الى الادنى . وهذا النظام رغم مساوءه الا انه يضمن وحدة القرار وتسلسل المراجع .
ولكن الولايات المتحدة وتحت ذريعة اسقاط الحكم الدكتاتوري قامت بغزو العراق لتطبيق النظام الديمقراطي بنسخته المشوهة الحالية ، تحت مسمى العراق الجديد وما لحقه من فوضى فاقمت محنة العراقيين .
فأصبح الدجاج المتحرر من النقر، السابق ينقر الآخرين كيفما شاء من دون تسلسل ولاترتيب . بل ان رؤساء الاحزاب والكتل اصبحوا ينقرون حسب أهوائهم ، فاختلط الحابل بالنابل فتعددت مصادر القرار ، وضاعت هيبة الدولة والمواطن على حد سواء،
وبدلا من الدكتاتورية الواحدة تسلطت على العراقيين دكتاتوريات متعددة .دكتاتورية قادة الاحزاب والكتل ، وديكتاتورية الميليشيات المسلحة ، وديكتاتورية المافيات والمخدرات ، وديكتاتوريات محلية طائفية اوقومية . والادهى من هذا والامر دكتاتوريات الأفراد المقدسين الذين يخلطون الدين بالسياسة والفتاوى بالسلطة وتصفية الخصوم .
وكان من افرازات النظام الجديد افتعال الحروب الداخلية العبثية بعد تقسيم المجتمع على اسس طائفية وعرقية ، وانتشار الفساد المالي والاخلاقي باسم الديموقراطية ، ومحاصصة صناديق الاقتراع المزيفة .وصار رؤساء الكتل يتحكمون بالنواب على هوى من يدعمهم من خارج الحدود .وتحولت حيتان الفساد الى اقطاعيات الدولة العميقة التي تحكم العراق من تحت الطاولة .
وهكذا تحول نظام الحكم الذي كان يوصف بالفردي الى نظام تسود فيه ميليشيات ومافيات مستبدة عديدة يصعب القضاء عليها .واصبح الشغل الشاغل للحكام الجدد بناء ثرواتهم الذاتية من نهب اموال الدولة ومصادرة الممتلكات، الحكومية والأهلية، وحتى أملاك ومدخرات المواطنين ، دون ان يقدموا اي خدمة صحية اوتعليمية اواشاعة الامن اوتوفير الحاجات الاساسية للشعب من كهرباء وماء .
وعملوا على تدمير الوطن بكل قدراته الصناعية والزراعية والبشرية .وضاعت حقوق الإنسان . فجرى اغتيال وتغييب المواطنين وتعذيبهم من دون مسائلة او عدالة بعد تعطيل القضاء ومؤسساته .لقد اصبحت الديكتاتوريات الدينية والنفعية الحالية من القسوة والعنف والظلم مالم يشهد له العراق مثيلا ، حتى صار العراقيون يعضون اصابع الندم والتحسر على نظام الحكم السابق لا حبا به ، وانما نتيجة لما يواجهوه الآن من ديكتاتوريات ظالمة حرقت الاخضر واليابس على مدى سنوات عجاف طويلة .
ان ادراك الشباب العراقي لوضع الدولة المتردي ، دفعهم الى انتفاضات عديدة ، ولم تكن انتفاضة تشرين الاخيرة الا عودة الوعي والصحوة من سطوة الديكتاتوريات الدينية الظالمة . وستبقى جذوتها مستمرة تتشبع بها الاجيال ، طالما بقيت اسبابها قائمة ، وهي تتطلع الى نظام حكم جديد يقوم على اساس الفكر الحر وكرامة الانسان التي هي اساس بناء الدولة الحديثة .