لا ينكر اللبنانيون أنهم كانوا دائما في أزمة. متى لم يكونوا كذلك؟ وهم لا ينكرون أن إرادتهم الذاتية لا تكفي لحل أزماتهم ولا حتى إدارتها أو تدويرها. في المقابل فإنهم على الرغم من بحثهم عمَن يعينهم على التصدي لما هم فيه من أزمات يظنون أن في إمكانهم أن يخلقوا المعجزات لو تُركوا لحالهم. ويشهد تاريخهم المعاصر أن الحرب الأهلية كانت دائما جزءا من نسيج مخيلتهم الجمعية.
عبر العشرين سنة الماضية كان حزب الله هو عنوان الأزمة التي يعيشها لبنان واللبنانيون. ناصروه أو اختلفوا معه فإن ذلك لا يقلل من ثقل هيمنته عليهم أو يجعلهم مطمئنين لما يخفيه قدرهم معه. بعد 2006 تقطعت سبل كثيرة وأدار الكثيرون ظهورهم للحزب الذي كشف عن نواياه الحقيقية في ابتلاع لبنان وإذلال شعبه.
بمرور الوقت تربت الطبقة السياسية اللبنانية على حقيقة أن حزب الله بعد أن صار ممثلا عن المحتل الإيراني هو الذي يدير الأزمة بما يحقق مصالحه. وهو في ذلك شكل مصدر راحة لأفراد تلك الطبقة المنغلقة على مصالحها الذين صاروا يمارسون عمليات فسادهم في ظل حماية الحزب الذي انتصر على المحكمة الدولية حين حاولت الاقتصاص من قتلة رفيق الحريري وعلى القضاة المحليين الذين سعوا إلى القبض على الجناة الذين تسببوا في تفجير مرفأ بيروت.
على الرغم من استقلاله في مؤسساته السياسية والعسكرية والمالية والبيئية فإن حزب الله لم يكن دولة داخل الدولة فحسب، بل كان أيضا قد وضع الدولة اللبنانية تحت إبطه ومشى بها إلى هلاكها. والدليل على ذلك لا يكمن في حالة الإفلاس التي صار اللبنانيون يعانون منها بسبب سرقة مدخراتهم المالية فقط، بل وأيضا في قرار الحرب الذي يدفع لبنان ثمنه من غير أن تكون له مصلحة في تلك الحرب فهي ليست حربه.
واقعيا ارتجل الحزب حربا بناء على معادلات إقليمية كانت إيران قد صنعتها بدءا من الحرب في غزة. هي حرب إيرانية لا علاقة للبنان بها. كل الحكايات الملفقة عن المقاومة لا يمكن إدراجها في تلك الحرب. كان القرار إيرانيا وكان على حزب الله أن ينفذه متمنيا أن يزج بإسرائيل في حرب على لبنان. كان ذلك مطلبا إيرانيا. لبنان هو الضحية مثلما هي غزة وأهلها. غير أن إسرائيل اليوم ليست إسرائيل عام 2006. وهي بالتأكيد ليست إسرائيل عام 1982 يوم احتلت بيروت. لقد تغيرت إسرائيل بتأثير من تقدمها العلمي وهو ما لم تكن إيران قادرة على استيعاب وإدراك معناه على المستوى العسكري.
ما يهمنا هنا أن أفراد الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان المستفيدين من اجتياح حزب الله للدولة اللبنانية لم يخطر في بالهم أن حربا سيشنها الحزب ستؤدي إلى نهايته. ذلك ما وضعهم في الفراغ وهم يتلقون قرارا دوليا لم يكونوا مستعدين لكي يكونوا طرفا فيه. بالنسبة لهم فجأة صار للدولة اللبنانية حضور لكي تقول كلمتها.
ولكن أي دولة تلك التي أفرغها حزب الله من محتواها وجعلها مجرد هيكل يستعمله في التغطية على مغامراته التي هي عبارة عن خطط إيرانية لا هدف منها سوى إلهاء العالم وإبعاده ولو مؤقتا عن الاهتمام بما تبيته إيران على مستوى بناء ترسانتها العسكرية ومنها طبعا مشروعها النووي؟
ما لم تكن الطبقة السياسية الفاسدة في لبنان على استعداد لمواجهته أن يُطلب منها إعادة تأهيل الدولة اللبنانية بعد أن أنهت إسرائيل جبروت حزب الله وقضت على قياداته التي كانت قد تكفلت برفع العتب واللوم عن السياسيين العاطلين الذين تمترسوا وراء امتيازاتهم ووجاهاتهم التي صارت بمثابة إرث عائلي.
حزب الله اليوم مجرد كتلة بشرية ضائعة سيكون سر فنائها في مخازن أسلحتها. ومن الواضح أن التقنيات العلمية الحديثة التي استعملتها إسرائيل في حربها الحالية لا تنفع في إفشالها الكتلة البشرية مهما تضخمت ولا مخازن السلاح مهما كثرت. لقد أفلت حزب الله الخيط الذي يتمكن قياديوه من خلال الإمساك به من أن يكونوا مطمئنين إلى سلامتهم.
وكما أتوقع فإن فجيعة الطبقة السياسية في لبنان بتراجع حزب الله كانت أكبر من أن يتمكنوا من خلالها أن يتعاملوا مع مستجدات الموقف الدولي. لقد صار عليهم فجأة أن يمارسوا وظيفتهم التي يقفون بسببها في الواجهة. ولكنهم غادروا منذ زمن طويل تلك الوظيفة.
ربما هو الفصل الأخير من واحدة من أكثر أزمات لبنان عنفا، ولكنه قد يكون بداية للبنان جديد يتخلص من خلالها من كابوس أزمة لن تكون الأخيرة، ولكنها الأسوأ بالتأكيد بعد أن يتخلص طبعا من طبقته السياسية.