الديمقراطية في بعدها الإنساني

الديمقراطية في بعدها الإنساني
آخر تحديث:

بقلم: فاروق يوسف

أليس هناك بعد إنساني للديمقراطية؟” سؤال حائر ومحير لمَن يعيش في ظل حياة ديمقراطية مواطنا يعرف حقوقه جيدا وهو بالتأكيد يعرف واجباته. وهو في الحالين لا يسمح بالتجاوز على قيمه الإنسانية التي هي مصدر كرامته وأساس وجوده إنسانا حرا ومستقلا ومشاركا في بناء الحضارة الإنسانية.ما حصل في العراق ومن بعده في سوريا باسم الديمقراطية لا يمتّ للإنسانية بصلة. لقد تم تدمير بلدين عريقين ونُهبت ثرواتهما ومُزق النسيج الاجتماعي فيهما وسقطت هيبة دولتيهما وصار الإنسان فيهما ضليعا في مؤامرة تدميره فازدادت أعداد النازحين واللاجئين والمشردين في انتظار أن تهبط الديمقراطية من السماء لتحل المشكلات على الأرض. وهو ما لم يحدث ولن يحدث أبداً.

لا أمل في قيام نظام سياسي ديمقراطي في العراق وسوريا. ليس لأن العراق لم يعد عراقا ولا سوريا لم تعد سوريا فحسب، بل لأن البعد الإنساني الذي تحتاجه الديمقراطية قد اختفى من مجتمعي البلدينقبل كل هذا وذاك، كم كان سؤال الديمقراطية قاسيا حين وقع الحصار الدولي على العراق الذي استمر من عام 1990 إلى عام 2003؟ يومها فقد العراقيون آخر ما يملكون من صفات الكرامة وتحوّلوا إلى كائنات، يأكل بعضها البعض الآخر في قفص كان يديره نظام استبدادي لم يتأثر بالحصار، بل ازدادت قدرته على البطش في ظل الاستضعاف الدولي للمجتمع العراقي الذي صار يسخر من نفسه ديمقراطيا. كانت تلك مرحلة ضرورية لاحتلال العراق.

أما حين تم احتلال العراق فإن الديمقراطية التي وعد بها الأميركان كشفت عن أسوأ ما فيها من خلال نظام طائفي هو أسوأ بكثير من النظام الاستبدادي الذي يقوم على حكم الفرد الذي يجمع فئات المجتمع من حوله ويحافظ على الوحدة الوطنية. استبداد الأحزاب الطائفية مزّق الوطن ووضع المجتمع في خدمة حربه التي لا تنتهي. لا يمكن لنظام طائفي أن يكون ديمقراطيا. فالسياسة فيه قائمة أصلا على توزيع الحصص بين أعضائه ولا وجود للشعب في المعادلات السياسية الجاهزة التي يحرص الجميع على عدم اختلالها خشية قيام حرب أهلية.

وهكذا كانت ديمقراطية الأميركان في العراق واحدة من أكبر أكاذيبهم التي صار العراقيون يدفعون ثمنها وهم منذ عشرين سنة يكابدون العيش في طاحونة من الهراء الديمقراطي، لا مكان لأيّ قيمة إنسانية فيه. ومع كل سنة من عمر النظام الطائفي ينخفض منسوب الإنسانية في العراق. أما حين يصل العراقيون إلى القاع سيكتشفون بحزن أنهم فقدوا الرصيد الحقيقي لحياة ديمقراطية كانوا يحلمون بها. ذلك الرصيد هو إنسانيتهم. فمن غير كرامة لا يمكن أن يتعامل الإنسان ديمقراطيا مع نفسه ومع محيطه ومع ثقافته ومع مستقبله المشترك.

ما حدث للسوريين يكاد لا يختلف عمّا حدث للعراقيين. ففي ظل الدعوة إلى الديمقراطية انتشرت الفظاعة الهمجية وتحول الكثيرون إلى وحوش قاتلة وصار حملة السلاح هم أسياد العالم الضيق الجديد الذي تسيّدته القيم الطائفية المتخلفة. لقد بدأت الثورة السورية حراكا سياسيا بمطالب ديمقراطية محدودة فإذا بها تتحول إلى مناسبة لإطلاق نزعات عقائدية متشددة هدفت بشكل أساس إلى تكبيل المجتمع بقيود طائفية عملت على تمزيقه، بحيث صار السوري عدوا لشريكه في العيش التاريخي وتركت الديمقراطية آثار جروح لن تندمل على الجسد السوري الذي تحول إلى أشلاء.التضحية بإنسانية شعب من أجل استيراد غطاء سياسي هي واحدة من أعظم جرائم التاريخ

لا أمل في قيام نظام سياسي ديمقراطي في العراق وسوريا. ليس لأن العراق لم يعد عراقا ولا سوريا لم تعد سوريا فحسب، بل وأيضا لأن البعد الإنساني الذي تحتاجه الديمقراطية قد اختفى من مجتمعي البلدين. فبعد كل هذا القتل فقد الإنسان قدرته على تصريف شؤونه بطريقة، يراعي من خلالها سبل العيش المشترك وصار كل واحد يبحث عن مصالحه، حتى لو أدى ذلك إلى سحق الآخرين.

لقد أخطأ الكثيرون ومنهم زعماء المجتمع حين اعتبروا الديمقراطية مجرد غطاء خارجي يمكن أن يهبط من السماء أو تمكن استعارته من الآخرين. وما الفشل الذي انتهى إليه العراقيون والذي صار سمة ملازمة لكل محاولاتهم الترقيعية إلا برهان على أن العمل السياسي إذا ما جُرّد من طابعه الإنساني سيتحول إلى أداة للقتل ووسيلة للنهب وليست هناك من إمكانية لاستمراره إلا من خلال انتهاك الحقوق وسيادة الاستبداد.ما تعرض له العراق ومن بعده سوريا هو درس تاريخي عميق الدلالة ولكن ثمنه كان باهظا. فلا ديمقراطية من غير بعد إنساني. وليس في الإمكان فرض الديمقراطية على مجتمعات، لم تُبن ثقافتها على أسس ديمقراطية. فالتضحية بإنسانية شعب من أجل استيراد غطاء سياسي هي واحدة من أعظم جرائم التاريخ.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *