الديمقراطي الكردستاني.. توسعت العائلة وضاق الأفق

الديمقراطي الكردستاني.. توسعت العائلة وضاق الأفق
آخر تحديث:

بقلم:علي الصراف

الحزب الديمقراطي الكردستاني، كأي حزب إقطاعي آخر، تابع لعائلة واحدة، لا يستطيع أن يكون استثناء عن تلك القاعدة. والانقسام الذي انتهى بغلبة مسعود على أخيه إدريس منذ العام 1979، عاد ليكشف عن انقسام جديد بين الوريثين: نجيرفان إدريس بارزاني، ومسرور مسعود بارزاني. الأول، يحاول أن يجعل من رئاسته لإقليم كردستان شيئا أكثر من منصب رمزي. والثاني يحاول أن يجعل من رئاسته لحكومة الإقليم أداة نفوذ سياسي وأمني. الأول، يراهن على محافظتي السليمانية وأربيل، والثاني يلقي بثقله على محافظة دهوك. الأول، يريد أن يستعيد ما فقده أبوه، أو على الأقل ألا يفقد ما فقده أبوه. والثاني، يريد أن يحافظ على إرثه الطبيعي مما قد يتركه أبوه.وجود “الأب” ما يزال يبدو وكأنه غطاء فوق مرجل الأيام الذي يسخن على نار هادئة. وفي لحظة من اللحظات فإنه سوف يغلي وينفجر. وحالما ينزاح الغطاء فإن الانقسام واقعٌ في النهاية، بين أسرة واحدة صارت أسرتين، لتقتسما تركة الإقطاعية التي أصبحت إقليما “فيدراليا” يسعى ليكون “دولة”.

كونه حزب عائلة، فإن الحزب الديمقراطي الكردستاني لم يلحظ، حتى الآن، أن شعب الستة ملايين نسمة لم يعد كما كان مجرد “أمة فلاحين” و”قجقجية” (تجار تهريب عبر الحدود) يقرر مصائرها البيشمركة الذين يشقون الطرقات ويوفرون الحماية لـ”التبادلات التجارية” بين الفقير والأفقر منه في دائرة ريف ضيقة التطلع إلى إنشاء دولة كردية مستقلة أو حتى إقامة نظام “كونفدرالي” في العراق، تطلع منخورٌ بما لا يوفر أساسا منطقيا له. فالدول لا تنشأ على تطلعات فساد أسري

الحزبان الكرديان الكبيران “الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني” كانا، وما يزالان حتى الآن، حزبين يمثلان الريف الكردي وأنماط علاقاته البدائية. وهو ما سمح لعائلتي البارزاني والطالباني أن تسيطرا عليه.

الطالبانيون كانوا على مساس أكبر بالمدينة من أقرانهم البارزانيين، بسبب طبيعة السليمانية وأربيل كمركزين مدنيين يرتبطان بوشائج وثيقة مع بغداد، مقارنة بدهوك التي لم تتطور إلا كطرف هامشي لريف “بهدينان”. سوى أن “ريف السياسة” ظل غالبا على الحزبين معا.كان رهان العراق السابق يقوم على تطوير عالم مديني في كردستان، لأجل أن تنحسر هيمنة الإقطاع السياسي في الإقليم. ولكن هذه المحاولة ظلت تقصر عن تحقيق الهدف المنشود. أولا، بسبب أن المدينة في بغداد لم تكن نموذجا ملهما للحريات، ولو كانت أكثر تقدما من الناحية الاجتماعية. وثانيا، هو أن اقتصاد كردستان ظل اقتصاد فلاحين وقجقجية. وثالثا، لأنه لم يكن من مصلحة الإقطاع السياسي الكردي، أن يهنأ الإقليم بالسلام، فيكون تابعا لدولة مركزية كانت هي نفسها دولة قهر واستبداد.

العشرون عاما الماضية، بما توفر خلالها من استقلال نسبي عن بغداد، وحريات سياسية أوسع، واكتشاف مصادر جديدة للثروة، وغرق بغداد بالفوضى، وتحولها إلى أكبر عاصمة للنهب والفساد في العالم، أتاحت لسلطة الإقطاع السياسي في كردستان فرصا جديدة، كما أتاحت لشعب الملايين الستة أن يبحث لنفسه عن أفق آخر.مصدر الثروة النفطية الجديد قضى على الاقتصاد القديم. وكان من الطبيعي أن يعزز فرص المدينة للنمو. ولكنه لم يُفلح في إنتاج طبقة وسطى حقيقية، لا تعيش على ريع إحدى العائلتين. ومن ناحية أخرى، فقد برز حزبا الإقطاع السياسي كحزبي سلطة ولكنهما بقيا يستعينان بأدوات النفوذ السابقة القائمة على الولاء العائلي، وعلى سطوة استبداد أمني، مماثلة تماما لما كانت تمثله بغداد في السابق، إنما على نحو أسوأ، بالنظر إلى أن سطوة بغداد الأمنية ظلت مجرد سطوة خارجية، بينما أصبحت سطوة الحزبين الأمنية داخلية ولا سبيل للفكاك منها.

الثروة منحت الحزبين مصادر تمويل تم توظيفها لخدمة مصالح العائلتين والتابعين لهما. وتوسعت هذه المصالح بالاستفادة من مصادر الفساد والنهب مقابل التواطؤ السياسي مع ميليشيات السلطة في بغداد.الثقب الأسود، في كل هذا، نشأ من أن أكراد ما بعد العام 2003 لم يعودوا هم أنفسهم أكراد ما قبل ذلك التاريخ. جيل جديد نشأ. كما نشأت مدينة أكثر حرية، وشعب لم يعد يشعر بظلم خارجي يملي عليه الانتساب إلى إحدى العائلتين طلبا للحماية. جيلٌ صار بوسعه أن يرى الفساد، ويلاحظ أن إقطاعية العائلتين أبعد ما تكون عن أن تمثل هويته أو تطلعاته، لاسيما وأن أموال الفساد صار مقرها جنيف ولندن وليس دهوك وأربيل.

العشرون عاما الماضية، بما توفر خلالها من استقلال نسبي عن بغداد، وحريات سياسية أوسع.. أتاحت لسلطة الإقطاع السياسي فرصا جديدة، كما أتاحت لشعب الملايين الستة أن يبحث لنفسه عن أفق آخر “حركة التغيير الكردية” و”الحركة الإسلامية الكردستانية” و”حراك الجيل الجديد”، وغيرها كانت بمثابة تعبير عن واقع جديد، وهوية سياسية جديدة، وتطلعات مختلفة.

مؤتمر الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي اختتم أعماله مؤخرا، لم يلاحظ التغير في الطبيعة الاجتماعية الكردية. ولكنه لاحظ أن العائلة البارزانية تتسع، فحاول أن يمنح كل فرع من فرعيها حصة تستر على الانقسام الداخلي، وتُبقي على الحزب كحزب إقطاعي، وليس حزبا سياسيا حديثا يمكنه أن يمثل شعب الستة ملايين نسمة. فعلى الرغم من أن النظام الداخلي للحزب يملي انتخاب نائب واحد لرب العائلة، أو زعيم الحزب، فقد اختار الرئيس مسعود بارزاني أن يُعين ابنه وابن أخيه نائبين له.

مسعود عيّن أيضا، من دون تصويب، عشرة من أعضاء اللجنة المركزية، من أصل 51 عضوا، وتمكن مسرور بارزاني من تمرير عشرين عضوا، ليؤكد نفوذه المستقبلي ويضمن خلافة أبيه، بينما تمكن نجيرفان من تسريب سبعة أعضاء قريبين منه. الأسرة على وجه الإجمال تملك الآن 37 عضوا في اللجنة المركزية، والباقي لشعب المساكين.كلا الفرعين يملك مصادر تمويل خاصة به، ويُنفق الملايين شهريا على رعاية “المؤسسات” أو “الأجهزة” التابعة له. والفساد أصبح ظاهرة طبيعية في الإقليم، وليس مجرد امتداد للفساد في بغداد، ولو ظل التواطؤ مستمرا، لكي تستمر عائداته.

التطلع إلى إنشاء دولة كردية مستقلة أو حتى إقامة نظام “كونفدرالي” في العراق، تطلع منخورٌ بما لا يوفر أساسا منطقيا له. فالدول لا تنشأ على تطلعات فساد أسري.الحزبان الإقطاعيان يعرفان جيدا أن هذا التطلع منخورٌ أيضا من جانب الرفض الإقليمي له. إلا أنهما يقومان بتسويق الفكرة، لكي توفر لنفوذهما الإقطاعي مبررا للاستمرار، وليس لأنها قابلة للتطبيق. فهما إنما يبيعان الأوهام للشعب الكردي ويدغدغانه بأحلام غير واقعية، لكي تكون ستارا لكل ما هو “واقعي” من عائدات “الواقع” التي تجد طريقها إلى جنيف ولندن.العوائل تتوسع. ولكن أفق بعضها لا يتوسع أبدا.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *