لم أجدْ أفضل مِن بيت معروف الرُّصافيّ(ت: 1945) مُستهلاً، قال: «لُقنتُ في عصر الشّباب حَقَائِقاً/ في الدّين تقصر دونها الأفهامُ/ ثم انقضى عصر الشّبابِ وطيشه/فإذا الحَقَائِقُ كلُّها أوهامُ»(الدّيوان 1959، الحقائق الملعنَّة). نقطع الطّريق على أحفاد الذين اختلف معهم الشّاعر، بما جاء في وصيته: «أنا ولله الحمد مسلمٌ، مؤمن بالله، وبرسوله محمَّد بن عبد الله، إيماناً صادقاً، لا آرائي فيه، ولا أداجي»(عليّ، الرُّصافيّ صلتي به وصيته مؤلفاته).ما جاء به الرُّصافيّ، ليس ببعيد عن مقولة وزير الدِّعاية النّازيّ جوبلز(1897-1945): «جوهر الدّعاية دائماً التَّبسيط والتُّكرار»(مذكرات جوبلز). فلم يقل ما سارت الرُّكبان به: «اكذب اكذب حتّى تصدق نفسك فيصدقك الآخرون»، فلا نظن يقدم وزير دعاية إتهاماً لنفسه.
عندما يركن الوهم، بحدود العقيدة، لا نذكره ونناقشه، لكنَّه أخذ ينالُ مِن الدّولة، ورجالها يتبنون تسويقه، فأي حاضر ومستقبل يُنتظر، إذا تشكل الأساس على تقادم الكذب وتكراره؟ شعوبٌ ودولٌ حلّ عليها وباء الصّحوات، وسرعان ما برأت وتعافت، بضمائر وعقول قادتها، وهذه البلاد صارت الصّحوة المشوهة لها فراشاً ودثاراً!
صار فيها عدد الأضرحة والمقامات مخيفاً، لاحظ كتاب «المراقد المزيفة»، التي تنسج حولها الحكايات المغيبة للعقل، تدخل المدارس، فمعلمون ومعلمات يتولون تعليمها على أنها حَقَائِقُ.منتظ آخر تكرار للأوهام ظهور مسؤول كبير، على الفضائيات، ليقول: «إدارة زيارة الأربعين(20 صفر)، اختصاص الإمام المهدي»، وهم كمسؤولين غير قادرين على تسيير المواكب، التي تُعطل لها دوائر من أسابيع، قال: «بلغ عدد المشاركين خمسة وعشرين مليوناً». هذا، وتكرار دعاية العدد سنوياً تعضيد للوهم، فالمعجزة أنَّ بقعة صغيرة (مقدسة) تحمل سكان دول مجتمعة. جمع هذا الادعاء بين ما نُسب لجوبلز زوراً «اكذب اكذب…»، وما قاله حقيقةً: «الدِّعاية تبسيط وتكرار»! أعلمت إلى أين وصل تغييب العقل بفضل سلطة العقيدة؟
لم يسأل المسؤولون ضمائرهم: «ماذا نعمل نحن كحكومة، إذا كانت الأمور تُدار بكرامة المنتظر»؟! أليس هذا تخلياً عن المسؤوليّة، وأي جهد عليه يأخذون رواتبَ؟ لا ندري، إذا كان هذا المسؤول يجاري جمهوراً غائباً عن الوعي بفضله، أو كان مُعتقداً، فكلا الحالتين تكرار للوهم، حتّى يثبت حقيقةً.
دعونا نسأل المبشر بالمعجزة: أمّا فكرت بتفجير القبة العسكريَّة بسامراء(2006)، الحاوي رفات جد المهدي وأبيه، فلماذا لم يحضر ساعتها، مع أنَّ أصبع الإتهام يشير إلى جهة تعلن نفسها ممهدة لظهوره، صبحةً وعشية، تراكماً للوهم. أين المهديّ عندما فُجّر المحراب العلوي بالنَّجف، الجد الأعلى، وقُتل مئة مِن المصلين، بفاجعة سببتها متفجرات تزن أطناناً، فأقيم لضحايا العمل الكارثي ضريحٌ هائلٌ، بلا جثامين، فلم تبق مِن الأجساد باقية، ليلتحق الضريح بأوهام سابقة، والفاعل مهدويٌ أيضاً. كم وكم من الحوادث، لم يحضرها المهديّ، مع أنَّ زيارة الأربعين نفسها لم تكن دِيناً، إنما مناسبة مختلقة، الكلام لآية الله مرتضى مطهري(اغتيل: 1979) في «الملحمة الحُسينيّة»، وآية الله كمال الحيدريّ، في محاضرة مصورة.
ماذا بقي مِن الدّولة، إذا كان المنتظر يُديرها، يرسم خططها الأمنيَّة وينفذها بنفسه؟ كان حديث المسؤول صادماً لذي العقل، ومعجرةً وكرامةً للمغيب عقله، الذي لا يميز بين ما يؤديه في المواكب ويسمعه مِن المنابر، وبين ما يتعلمه في المدارس والجامعات، فالتعليم صار واحداً. فإذا قال أصحاب العقيدة سيأتي المهدي ويملؤها عدلاً وقسطاً، فمسؤولو اليوم يقولون: «هو صاحب الدَّولة»!كان الاستهلال بالرُّصافي، ونختم به: «كم بات ذو الحَمقِ خلواً في مضاجعهِ/وبات ذو العقلِ فيها كاسفُ البالِ»(الدِّيوان). إنه عين ما أبدعه المتنبيّ (اغتيل: 354هـ)، وعذر الرُّصافيّ ما قيل في توارد الأشعار: «تلك عقول رجالٍ توافقت على ألسنتها»(الشُّريشيّ، شرح مقامات الحريريّ).