أغلال جسور بغداد

أغلال جسور بغداد
آخر تحديث:

بقلم: كرم نعمة

منذ أن ودعَ علي بن الجهم عيون المها بين الرصافة والجسر، وبغداد لا تتوقف عن مد هيامها على أضلع الجسور. ليست بغداد وحدها أماً رؤوما للجسور، فالمدن عندما تبنى جوار الأنهار، تكون جسورها كالرضع تنام في حجرها. لكن يا لوجع الجسور أن تكون في بغداد! فلا قصص ترويها مدن العالم عندما يتعلق الحال بالجسور، إلا وبغداد كانت أشدها مرارة.عندما اُفتتح الجسر المعلق في ستينات القرن الماضي مرت عليه أحلام وهبي وأمل خضير في أغنية احتفاء تؤرخ لقلوب البغداديين محلقة كالحمامات فوق دجلة. ويقال إن قصيدة لميعة عباس عمارة كانت نوعا من المناجاة بينها وبين نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين عندما رفض استقبالها وتعيينها ممثلة العراق في اليونسكو. هكذا أوصد الجسر المعلق أمامها فكتبت “خلقت جسور الكون موصلة/ إلا المعلق أمره أمر”.

قبل أن تُكسر أضلع الجسور عام 1991 كانت الشاعرة دنيا ميخائيل تقود سيارتها على جسر الجمهورية بصحبة صديقتها الرسامة القتيلة غادة حبيب عبدالرزاق، وانتابها شعور غامض بالضياع! سألت دنيا غادة الجالسة جوارها: هل سمعت من قبل بتائه فوق جسر؟ فرسمت غادة لوحتها الشهيرة التي أبهرت محمود درويش.

وبعد أكثر من ثلاثين عاما لم يخف وجع تلك السيدة الجالسة جواري في الحافلة التي تعبر بنا جسر السنك، بينما على جانبنا الآخر أضلع جسر الجمهورية محطمة في قاع النهر، وهي تقول بصوت مسموع “الله يكسر قلوبكم ماذا أخذ منكم الجسر”. على الطرف الآخر نشرت الصحف الشعبية البريطانية صور حطام جسري الجمهورية والمعلق بعنوان يجسد ابتذال الصحافة في جملة “لقد كسرنا أضلع العراق”، كتبت بعدها ساجدة الموسوي قصيدتها الملتاعة بجسور بغداد.

لا زلت أتذكر عندما مد العراقيون شرايين جسر الجمهورية وافتتحوه تحت وطأة طوق الحصار الأعمى كانت عشرات الكاميرات تبحث لها عن زاوية تصوير مناسبة بين آلاف الحشود المحتفلة بعراقيتها قبل جسرها، ومِن فرط بهجته كان المخرج الكبير الراحل عمانوئيل رسام وصديقه المصور الشهير محمد خطار من بين الذين حملوا الكاميرات لتوثيق تلك الساعات المفصلية في تاريخ العراق.

لا ينسى العراقيون مسلسل “وينك يا جسر” وهو يؤرخ لقصة تشييد جسر السنك، وإلى اليوم يتحسرون على إيقافه فجأة بعد بث حلقات منه من دون أن يكشف لنا أي من كادر هذا المسلسل، بمن فيهم مخرجه فلاح زكي، سر الإيقاف!

إياك أن تذكر الأغاني عندما تبث وجعها للجسور فهي أشد وطأة على القلوب، فعندما غنى ياس خضر “تايبين” كان عليه أن يمر على جسر السنك آنذاك، وعندما أعيد شريط أغانيه بعد خمسين عاما في “شكرا يا عمر” كان عليه أيضا أن يقف مرة أخرى على نفس الجسر.

هل بمقدور التاريخ ألا يكفكف دموعه وهو يوثق لموت شاعر أغاني الضياع والعشق جبار الغزي تحت جسر الشهداء؟عن أي تاريخ نتحدث عندما يتعلق الأمر ببغداد وجسورها؟ فعندما ثار شباب ثورة تشرين اختاروا الجسور أن توثق تاريخ ثورتهم، فأقفلها أمامهم لصوص الدولة.لا يستطيع هؤلاء اللصوص ذوو الأصول الوضيعة، خاطفي الدولة، الذين لا يمتون بصلة لبغداد وذاكرتها، مغادرة هامش ذاكرة المدينة.إنهم يحاولون اليوم نصب بوابات حديدية على أطراف جسور بغداد، خشية من أن يمر شباب ثورة تشرين في قادم الأيام لتهديم معبد العملية السياسية على رؤوس مشيديها.كل تلك البوابات الحديدية القبيحة، كأغلال عمياء على أطراف الجسور، تكشف ذائقتهم الفاسدة وابتذالهم، بينما بغداد وجسورها تترقب لحظة نفض الغبار عن وجهها.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *