إعادة الطبع وإعادة الاكتشاف

إعادة الطبع وإعادة الاكتشاف
آخر تحديث:

 ياسين طه حافظ

الحديث بدءاً عن إعادة طبع الكتب، علمية، نقداً أدبياً، دراسات اجتماعية وأيضا ترجمات كتب. وقد تسأل لماذا وترجمات كتب؟ أقول لك ريثاً، ستأتي التفاصيل وبعد أن نعرف لماذا نعيد طباعة الكتب إن نفدت وأحيانا حين بعد لم تنفد. الإجابة الأولى لأنها لم تعد متيسرة في السوق وثمة أجيال جديدة تريد الإفادة منها وناس من الجيل نفسه، جدت حاجتهم لها وآخرون أحوجتهم ثقافتهم بتطورها إلى ما فاتهم من قبل أو لم ينتبهوا إليه. الأسباب كثيرة وكثيرٌ منها نجهله. في كل حال نحن بأزاء حالة إعادة طبع الكتاب وما يهمني منها غير التي ذكرت.فأنا معنيٌّ بما فاتنا، بما افتقدناه، بما نتمنى الالتقاء به أو التماس به وإيضاح أو كشف سر آخر له بعدما كتبناه ومضى للناس. يفوتنا من كل ما نرى وما نسمع وما نقرأ الكثير وهذا مصدر قلق عما صدر منا. وهذا معناه أيضا تفوتنا من الكتب التي قرأناها بطبعتها الأولى أمور قد تكشفها لنا الطبعة الثانية مع القراءة الثانية. صحيحٌ هي قراءة جديدة أخرى، ولكن من يُعيد طبع كتاب لا بدَّ من أسباب دعته الى ذلك غير نفاد النسخ.إضاءة بعض الجوانب مثلاً، تصويب أو تطوير بعض الأفكار والمواقف أو انتباه إلى مسائل أردنا الآن الإشارة لها لكي لا نظل مقصرين أو غافلين عنها. أو لكي نكون مؤتمنين على ما نعرف مثلما على ما يجدّ وقد اطلعنا عليه. بقي أن أكاشفكم بمسألة ربما كنتم على مساس بها أو أن هاجساً منها يخطر بين حين وآخر. تلك هي أن التأليف، كل تأليف، هو عملية نقل أفكار أو نقل عواطف أو إعلام بمعنى نقل ورواية أخبار. وهذا في أساسه عمل ترجمي. هو ترجمة أفكار وسبقنا أفاضل كثيرون قالوا بأنَّ فلان ترجم أفكاره!ولا توجد ترجمة أبداً ليس في بعض منها، وفي بنيتها الأساس، تناص. التناص ركن مؤسس في عملية الترجمة. ولأن الترجمة في حديثنا هي التعبير عن الأفكار، فاذا التأليف عملية متعددة الأفعال، تجمع بين الملاحظة والإدراك والفهم والتعبير أو ترجمة الأفكار. إعادة طبع الكتب حين نتعالى عن مستوى الهوس الصبياني والادعاء، وحين نرقى إلى مستوى الأدب الجاد هو فرصة استكمالات لمكونات المؤلَّف وتماسكه وتحسين شبكة العلاقات بين معانيه أو موضوعاته الظاهرة أو المدّخرة. هي فرصة لتمكين القارئ من الرؤية الجديدة ومما فاته أن يراه. نحن الآن نفترض امتلاكنا للطبعة الأولى واطلاعنا عليها. الحديث هو عن: أولا: الانتباه لما كتبنا من قبل، تعديلاً اضافةً استكمالَ أو استدراك ما يوجب ذلك ومحاكمة جديدة لدقة التعبير أو زللــه لغير القصد. وثانياً عن قراءتنا المختلفة عن تلك التي كانت بمستوى أقل أو دون أو ما أوجده تطورنا الثقافي من حاجة جديدة أو ما لم يعد يتناسب وتقدمنا المعرفي ونضج ومقدرة استيعابنا. ولذلك، في الكتب المهمة، نجد مؤلفيها المهمين، ذوي الأسماء الرفيعة في حقول تخصصهم، غالباً ما يكتبون مقدمة ثانية جديدة لطبعة الكتاب الأخرى يشيرون فيها إلى أسرار معرفية أو ينبهون إلى ما فات. والأجلاء العلميون منهم يعتذرون عن أخطاء ويصححون للقارئ ما سبق أن ورد في كتبهم. وهنا تكون عملية إعادة طبع الكتاب في جانب منها عملية تصويب، أو استكمال، أو ايضاح، أو تعقيب وكشف لجديد حصل وقد جاؤوا الآن على ذكره احتراماً لكمال المعرفة وسلامة الأفكار. هو اذاً فرصة لإعادة إظهار العمل وقد تلافى ما فاته وأشار إلى جديد لم يكن قد اتضح أو لم يكن قد تضمنه. أما ما نشهده من لعب كأن يطبع الواحد أقل من خمسمئة نسخة ويعاد الطبع بحجة نفادها فذلك لا يعنينا. حديثنا عن العمل الثقافي الجاد وعن الناس الذين يشعرون ونشعر معهم بأنهم بعض من حركة الثقافة والوعي ولهم كتب مهمة أو دور في العلوم والأفكار والدرس الأدبي أو في اللغة والفن. أولاء أعمدة النشاط الثقافي وأولاء بعض من فيلق المسهمين في صناعة الثقافة في بلادهم وربما في العالم. للعب ساحاته وللهو والخفة ناسها كما للعمل الجاد أمكنته وناسه، وهنيئاً لكلٍ بعمله، سواء كان عابراً للقمامة أو متسنّماً حضوره المحترم وكتابه، على رف دائم في مكتبة يؤدي مهمة أو يقدم نفعاً، فهو المرجع المفيد أو الشاهد المفضل في البحث والتأليف، وربما يتجاوزهما ليؤدي فعلاً في الحياة العملية وعيش الناس. بقيت مسألة وددت الاشارة لها. فقد عرفنا رد هذا المؤلف على ذاك بكتاب يماثل أو يضاد كتابه. مثلما عرفنا كاتباً يرد بمقال على مقال لغيره. أود القول إن هذا الطراز من التصويب وربما المخالفة تضاءل ويكاد يختفي. صار الكاتب لا يرد على كاتب ولكن يكتب مقالاً جديداً في الموضوع نفسه، بفكر ورؤية مختلفتين. وبهذا انتقلنا من المساجلات والمشادات إلى أن نحقق مقالاً ثانياً ونسمع أو نرى أفكاراً في الموضوع أخرى. وهذا تماماً ما نراه اليوم في الصحافة الثقافية والعلمية المهمة ومنذ ثلاثة أو أربعة عقود. إن اختلاف طبعة عن طبعة تعني أيضا اختلاف كتاب عن كتاب وقراءة عن قراءة ومجموعة تناصات مع ما في المخطوطة الأصل. ولا بدَّ من الإشارة أيضا أن حتى حينما يرد كاتب أو دارس على غيره أو على كتاب يناقض كتابا لغيره، هو يصحح ما يراه خطأً أو يقدم فكراً آخر مختلفاً، وبهذا اختفت حماسات التباهي والتعالم إلى ما هو مفيد للجميع، للكاتب ولزميل الكاتب الآخر أو خصمه الثقافي، وللقرّاء الذين أفادوا من كتابين بدلا من كتاب واحد ومن مقالين بدلا من مقال واحد. ورأوا بدل الثقافة الواحدة ثقافتين. هي دعوة لمغادرة المراهقة والحماسات والتباهي إلى ما يتطلبه هدوء المكتبة وقاعة المتحف وما يوجبه احترام الناس والنفس أيضاً.بقي أن نرتقي إلى معنى آخر هو: أن أكتب خيراً منك وأكشف ما هو أصوب، يعني أنني أقترب من الحقيقة أكثر وإن مسعاي للحقيقة أقوى وأكثر سلامة هدف. وإلّا، فنحن جميعا نكتب وقد أكتب وتكتب جميلاً ومريحاً. امتياز أي واحد عن الآخر هو بمدى السعي المخلص للحقيقة وبالرؤية الأوسع أفقا للجمال وأي منا هو الأقرب والأكثر انتصارا للحرية… وإذا لم تكن إعادة طبع الكتاب لواحد من هذه الأغراض، لا يبقى أمامنا إلا التجارة والانتفاع. وهذا أمر يخص الناشر وهو الذي يتحمّس له أو يعتذر، مع إقرارنا أن ذلك بعض العمل وضرورة من ضروراته. لكن حديثنا كان عن اخلاقيات الكتابة الثانية.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *