العراق الذي لا يُهمل إلا لتُهمل النجاة

العراق الذي لا يُهمل إلا لتُهمل النجاة
آخر تحديث:

بقلم:علي الصراف

العراق لا يُهمل لسبب واحد على الأقل. إنه سببٌ لا حياة آمنة من دونه، ولا أمل بالنجاة. صحيح أن الذين يتحكمون بقيادته مَنْ تليق به كل أوصاف الجريمة، إلا أنهم ليسوا نهاية الكون، ولا هم آخر التاريخ في العراق.لقد عرف العراق من أمثالهم الكثير، وذهبوا بما نهبوا إلى مزبلة الأيام. ماتوا في آخر المطاف. حملوا أوزارهم معهم إلى جهنّم وبئس المصير. وهناك فسحة فارغة في جهنّم تنتظر المزيد منهم باستمرار. لا مشكلة إذن لو خرجوا من مستنقع ظل يتعفّن لنحو عقدين من الزمن، منذ الغزو الأميركي للعراق. لا مشكلة، من هذه الناحية، على الإطلاق. ويفترض ألا تثير القلق لدى أحد ممن يمكن أن ينظر إلى العراق من نافذة ذلك السبب الواحد على الأقل.

والعراق لا يُهمل. صحيح أن الكثير من مواطنيه فسدوا بفساد من يحكمهم، ويتبعون كل سلطة بدوافع الاستمطاء الذاتي أو الميل الطوعي ليكونوا خدما لكل نظام، إلا أنهم ليسوا كل العراق. ولقد ظلت الأيام تكشفهم، وإن لم يكتشفوا انحطاطهم الأخلاقي بعد. ولقد وردتني تذكارات مؤخرا تقول إنهم مع النظام الملكي، كانوا يقولون “نوري سعيد شدة ورد، وصالح جبر ريحانة”، وعندما سقط قالوا: “نوري سعيد القندرة، وصالح جبر قيطانة”. وعندما حكم عبدالكريم قاسم قالوا: “اعدم، اعدم.. جيش وشعب وياك”، وعندما سقط قالوا: “يا بغداد ثوري ثوري، خلي قاسم يلحق نوري”. وعندما تغلب الشيوعيون، صاروا شيوعيين ويرفعون شعار: “سنمضي سنمضي إلى ما نريد، وطن حرّ وشعب سعيد”. وعندما جاء البعثيون إلى السلطة قالوا: “شعب شعب كله بعثية، موتوا موتوا يالشيوعية”. وهكذا تواليا إلى أن حكم الرئيس الراحل صدام حسين العراق، فصاروا من “فدائيي صدام”، فلما تم اغتياله صاروا من “جيش المهدي”.

هذا الجزء من الشعب العراقي لا يستحق قيادة إلا من النمط الذي حكم العراق على امتداد العقدين الماضيين. والعرب تقول في مثل شهير “وافق شنٌّ طبقة”. وهم يسمعون الجزء الآخر من الشعب العراقي يقول على سبيل السخرية “من هالمال، حمل جمال”، فلا يكترثون. لا ضمائر حية لهم، ولا هم يحزنون. يتبعون القوي ولو استقوى عليهم ونهبهم، ويستهينون بالضعيف، ولو دلهم على الصواب، وظلوا يدأبون على هذه الحال، منذ أيام سيدنا نوح، فلم يتبعوه لأنه كان نجارا فقيرا. فأغرقهم الطوفان. ولكنهم توالدوا من جديد، حتى أصبحوا طائفة كاملة من أهل الولاء، لا لأنفسهم، ولا للبلد الذي ترعرعوا فيه، وإنما لإيران. إلا أنهم ليسوا كل أهل هذا البلد. ففيه الكثير من الأحرار. فيه مَنْ بنى العراق وأسس دولته الحديثة. فيه طائفة مظلومين ومحرومين من كل الديانات والأجناس. فيه شعب آخر، ينتظر الأيام، ويعرف أنه باقٍ أكثر من أيامها السود. وإهمال العراق يعني إهمالهم هم بالذات، وإهمال الأمل بنهضة تُحيي السبب الذي لا أمل من دونه للمنطقة العربية برمتها.

“خليجي 25” أظهرت جانبا من الاحتفاء بانتماء عروبي -خليجي ليس للعراق مكانٌ أكثر لياقة به منه. انتماءٌ يتوافق مع تاريخه وجغرافيته وتكوينه الاجتماعي وثقافته وفولكلوره. ولقد زاد فوز المنتخب العراقي، هذا الانتماء إشراقا. فقل شكرا لكل الفرق التي قدمتْ الهدية للعراق، لأنها خسرت كأسا، ولكنها كسبت العراق. احتفلت له، مثلما احتفل بها ولها. لأنه بلد لا يُهمل. ولأنهم من دونه مُهددون باستمرار.القوى الخليجية الكبرى، هي أول مَنْ يتوجب أن يتقدم الصفوف لجرّ العراق إليها بالذهاب إليه، وبالاستثمار فيه، وبالعمل على إعادة بنائه للمظلومين من أهله. ولأجل إزالة ما تصدّأ على سطح معدنه النقي. ولكي يستردّ الولاء لنفسه ولأمته ولبيئته الطبيعية. لا لأمة الدجل في إيران.

والسبب، هو أن العراق هو القوة الوحيدة التي تستطيع أن تواجه التهديد الإيراني. عندما يضعف العراق، تضعف الأمة العربية كلها. تضعف دول الخليج منها أولا، وتضطر إلى ما لا تضطره عندما يكون معها العراق.الهمجية والعدوانية والتوسع الإيراني لا صلة لها بحاكم أو آخر. كلهم سواسية في تطلعات الهيمنة على دول المنطقة، وضعوا تاجا أو وضعوا عمامة. هذا ما يقوله التاريخ. أنظر فيه وسترى أنه يتجدد من تلقاء نفسه.لم يكن دعاء الخليفة عمر بن الخطاب “اللهم اجعل بيننا وبين فارس جبلاً من نار”، دعاء ضيق من عدوانية مؤقتة. أبدا. فقد شقوا الإسلام، بعد أن جعلناهم مسلمين، وشوّهوا تاريخه وحولوه إلى أداة لسفك الدماء بين المسلمين أنفسهم، إلى يوم الناس هذا.

ولك أن تتخيّل ألفا وأربعمئة عام من العداء الدفين، المبطّن والمكشوف. والحروب التي ظلت تلد حروبا، والنزاعات الأهلية التي لم تنطفئ نيرانها، إلى أن جاء حسن نصرالله ليرفع شعار المقاومة وهو يتاجر بالمخدرات. هذه هي إيران. ولا توجد إيران سواها. ومن حق المرء أن يشك، بسبب هذا التاريخ، أن تكون هناك إيران سواها بعد ألف وأربعمئة عام أخرى.إن لم يتمددوا بالغزوات، تمددوا بالغلمان والأتباع. وإن لم يكسبوا بالحرب، كسبوا بالنفاق. ويظلون يعتقدون أنهم أرقى عنصر، لا تعرف على أي أساس، بينما “حضارتهم” لم تكن إلا حضارة كفر وطغيان وفساد. فلما أعطيناهم حروفا وثقافة ودينا، ركبوا الوقاحة علينا أكثر.العراق هو وحده الذي يستطيع أن يلجم العدوانية الإيرانية، ويردها على أعقابها ويُسقيها كأس السم، لتموت به وبأحقادها الأبدية ضد الجوار.العراق لا يُهمل، إلا ليُهمل معه السلاح الوحيد ضد تلك الأحقاد.العراق هو النجاة. وأول النجاة أن ينجو بنفسه من سلطة الجريمة والفساد، ومن تابعيهم ومَنْ والاهم وارتدى عمائمهم واتبع طائفتهم.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *