بمِقْرعة الشَّجَن على باب الغياب

بمِقْرعة الشَّجَن على باب الغياب
آخر تحديث:

طالب عبد العزيز 

 مثل الإِوز البري برواية سانت اكزوبري (بريد الجنوب) الطائرِ الداجن، الذي تعاوده الرغبة بالطيران في كل موسمٍ للهجرة، تعاودني ذكرى المرأة التي أحببت. مرَّت سنوات أربعونَ، وهي تريني الرضى ساعة لا يرف جناحُ الغضب بطائِرها، وتريني الغضب ساعة لا يسكن في صدرها طائرُ الرضى، وهكذا، صرت أربي طائري الرضى والغضب في صندوق واحد، أطعم هذا بفضلة طعام ذاك، واسقي ذاك بفضلة ماء هذا، أغني بفم مرضاتها ساعة لا أجد ما أنوح به، حتى إذا انطوى يومٌ، وانقضت ليلة أخذت كتابها ألثمه، فهدأت، وقلت: يا الله.

 من صفحةٍ مهملةٍ في الهاتف تجيئني كلماتُها، يقينيَّةً، لا مِراءَ ولا إدِّعاء، لكأنَّ الدَّهرَ قد قضى ما بيننا، أو أوشكَ، وتوارى طائرُ اكزوبري في الفضاء البعيد، هكذا، ومثل طفلٍ يئسَ من بكائهِ مرثيّةً عند أمِّه، أكون قد نسيتُ من غضبها ما نسيتُ، وطويتُ من صفحاتِ كتابها ما طويت، فأنا أستعيدُ لقالقَ بيضاً في ثيابها، وسنونواتٍ كانت لنا. قالتْ: سأقفُ، فوقفتْ، ولم يطرْ بيننا طائرُ الغضب القديم، فهبَّ صوتُها بارداً، أكاده، لكنني مختومٌ بطغراء الصمت ما أزال، وهي لا تبوحُ إلا بما يُحدثه ثوبُها في العشب، وأنا لا أحدِّثها إلا بما أتشوّقهُ من وطنٍ تحت قميصِها.. فرأيتها واحدةً بين كثيرٍ غمَّ عليّْ، وأنستُ بما كنتُ آنسُ به، ولهجتُ بما لهجتْ به، وصمتُّ عمّا صمتتْ عنه، وقد نبحتها كلابُ جسدِها، فهي واقفةٌ خلف ستارة الرفض خيرٌ عندي من وقوفها خلف ستارة القَبول، آه، لو أنَّها قرعتْ بيدِ الغيابِ مِقرعةَ الشَّجنِ القديم لسقط من لوحِ الانتظار دودٌ كثير.

 لا أعرف أما زلنا نحبُّ بعضنا أمْ لا! هي تصمتُ عن هذا، وأنا كففتُ عن قولي: أحبُّك. نحن من سنواتٍ لم نلتقِ، وما جفل بيننا حصانُ الشوق مرةً، فهي تلجم ما انتعظ وغلظ بين قوادمه، وتنهرهُ كلما أضرسَ الندمُ قلباً له، وفي شبه عناقٍ طويل، لم أتبيّنه على خصْرها، فظلَّ غامضاً في سرجٍ كثيرة لي، أخذني طائرٌ أسودُ، لم أعهدْه بصدري من قبل، فتجرأتُ، وأحببتُ امرأةً أخرى، أخذتني الى بستان أبيها، وعلى نهرٍ منسرحٍ أخضرَ نتفتْ ريشَ الطائر الغريب ذاك. فذبُلَ سعفٌ كثيرٌ ومرَّ الوقتُ مريضاً وناعماً، وبأصابعَ من صفصاف وماءٍ راحت تفرّق شعري، الأسودُ لها والأبيضُ لي، الأسودُ لي والأبيضُ لها.. حتى انسلَّ الليلُ من فروةِ رأس النهارُ، ومات النهر. لا أعرف كيف قامت الساعةُ بيننا، فقد تداكك غيمٌ، وكان رعدٌ، وكان مطرٌ، وأهيلَ ترابْ.  

 في المساءات التي ظلت نائمةً، وفي الصباحاتِ أيضاً، سألتُها ما إذا أمكننا تقاسُمَ ما تخلَّف من الظلال بيننا، وقد هالنا أمرُهُ، فلاذتْ في ضريحٍ أسودَ بجسدها، والتحفتِ الحياءَ، ونأتْ، فصرتُ أسمعُ حوافرَ خيلٍ تخبُّ وترحلُ، وأرى عَرَباً يغْربون.. كانت البريَّة وهادَ رمل، والعوسجُ يُفرد في الارض مفازاتٍ، يتركها الهوامُ الى الهوام، ثم أنَّها أطلعتني على شآبيب ما اشتجر حولها من النخل والأطيانِ، لم التفت اليه، فقد كنتُ أبحثُ في صوتها عن طائرنا الأول، وهو يُحلّق بجناح الرضى ساعةً، وبجناح الغضب ثانية، طائرنا الذي ظلَّ طائراً الى اليوم.. ولكي لا أبدو عاطلاً مقطوعاً بحبل الشوق، أرشدتها الى الحفرة التي اتخذتها مأمناً في غيابها، غير أنَّها، وكما ألفتها قبل أربعين ونيِّفٍ، تتركني عند كلِّ جسر أقمته، وكاذبةً تمتدحُ الأفول.

 أبدأُ بالخشب أو لا أبدأ، ليس هذا ما أتذكّره/ أتراجعُ في ردْفِ امرأةٍ على الطريق، ليس هذا ما يُشغلني/ أتمرّدُ في عربة قطار، ليس هذا ما أخافه/ لكنّني، أتجرَّعُ كأسَ الذُّلِّ على يديكِ، ساعة لا أجدُ عندك ما أتيتُ لأجلِه، وهو كثير…  ليس هذا فحسب، إنَّه الأمل الذي لم يعد ممكناً، وثقيلٌ، ثقيل جداً وجهُ الغد في زجاج النافذة. 

سقطتُ في حُجْرِ السيّدةِ المحترمة أمس، بلى سقطتُ كان النبيذ غامقاً، ولم تحضرني لحظةُ الورع السخيفة تلك، إذْ لم أكُ كيّساً ما يكفي فسقطتُ.. وفرّقعَ قلمُ الحُمرة، فرقعتْ عُلبةُ طلاءِ الأظافر على البلاط، فكان الصوتُ ما اشتهيتُ، وكانت الألوان مما يجيئني في الحُلم، ويتركُ أثراً على السُلّمِ، حيث طويلاً وقفتُ، انتظرُ الخارجينَ من أشيائهم، أدفعَ الداخلين في الليل إلى الليل.. حتى أسلمني الشَّجرُ الغَرَبُ الى الشَّجرِ الغريب.

عند بائع الأزمنة تأملتُكِ نصفَ سريرٍ وخزانة ثياب، سألتُك لها باباً مفردةً، لا غيرَ، والى الذِّهاب والايِّاب قميصاً أبيضَ، وبنطلونَ جينزٍ أزرقَ، أبلته المكاحتُ على الاسفلت، أقطعُ من المرآة لك قطعةً، ومن أحزانك أبتاعُ شجرةَ طلْحٍ لا أقربها إلا ثملاً..  لم يكن الامرُ بهذا السوء، فقد ينزلقُ الخاتِمٌ في صحن حساء، وربما رفّ جناحُ الطائر بيننا ثانيةً، يا آخر أعناق اليقطين في سلّةِ الروح، لم يئن لأحدٍ معاينةَ الجسر، حيث وقفتُ، وتولّاني النهارُ بشمسه أمس، وأتى بسوطه على الفرْضِ الرَّخص من حياتي. كلُّ الأمكنة كانت نائيةً لديك. السلاحفُ حسبُ، من تبيعك الوقتَ، حيث تقفينَ وحيث تغربُ على أسمائك الشموس. 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *