لا شك أن مقتدى الصدر يريد بناء الدولة في العراق بالمعنى القانوني والسياسي والأمني؛ دولة تقضي على التشرذم السياسي في صفوف الطبقة البرجوازية الحاكمة بممثليها السياسيين من كل التيارات القومية والإسلامية. وما شعار تشكيل حكومة “الأغلبية الوطنية” إلا عنوان مشروعه في بناء الدولة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو بأية طريقة يريد بناء الدولة وما هي ماهية الدولة التي صدع بها هو ومصطفى الكاظمي رؤوسنا؟
وجدير بالذكر أن الأخير قام بتمييع ملف قتلة المتظاهرين وتم استبداله بلقاءات وتكريمات هذا الطفل وذاك المبدع وهذه الأم… إلخ من إنجازاته غير البهلوانية، والتي لا ترتقي إلى مصاف تصريحاته وهتافاته لبناء الدولة وتحقيق القانون كما يدعي.
التغريدة التي أوعز بها الصدر لاستدعاء وزير المالية علي علاوي في البرلمان العراقي لمساءلته حول تخفيض قيمة العملة المحلية، أشعلت غضب الوزير المعني الذي بدوره استهجن طريقة مخاطبته وقدم شكواه للكاظمي، وهو التقي الورع الذي يعرف “أن الشكوى لغير الله مذلة”. وكان علاوي محقاً عندما غضب وقال إن طريقة الصدر ونائب رئيس البرلمان حاكم الزاملي، وهو الآخر من تيار الصدر، ليس فيها أي احترام واعتبار للحكومة وهو ما يعني عدم احترام الدولة التي تمثلها حكومة الكاظمي ووزير ماليتها كجزء منها.
يمكن للمراقب ملاحظة أن الصدر يتصدر المشهد السياسي بعد الانتخابات عبر التغريدات المتكررة التي محورها شعاران؛ حكومة أغلبية وطنية، ولا شرقية ولا غربية. وكل هذه التغريدات هي محاولات لتعويض الانحسار الاجتماعي لتياره بالرغم من حصوله على 73 مقعدا في البرلمان، وهو الأعلى بين بقية القوى السياسية.
وقد يستغرب البعض مما نقوله، ولكن على الرغم من أن الفائز الأول في الانتخابات هو التيار الصدري فإن المعطيات المادية تبين لنا حسب أرقام مفوضية الانتخابات (غير المستقلة) أن التيار الصدري الذي نال في انتخابات 2018 مليونا و800 ألف صوت لم يحصد أكثر من 600 ألف صوت في انتخابات أكتوبر 2021، أي انخفاض جماهيريته بنسبة أكثر من 65 في المئة بغض النظر عن معدلات التزوير في كلا العمليتين الانتخابيتين. وهنا لا بد من المرور قليلا على “النظام الديمقراطي” كي نوضح ما نرمي إليهِ، حيث إن النظام المذكور لا يأخذ بعين الاعتبار عدد المشاركين في الانتخابات التي بلغت نسبة المقاطعة فيها أكثر من 82 في المئة على أقل تقدير وباعتراف المؤسسات الدولية مثل بعثة الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة ووسائل الإعلام العالمية. ولا يقف “النظام الديمقراطي” عند عدم الاعتراف بنسبة المشاركين في الانتخابات فحسب بل ويمضي في قصف أدمغة الأحياء لتعميتهم عن حقيقة مفادها بأن النسبة العظمى التي قاطعت الانتخابات لا تعترف بشرعية العملية السياسية ولا بشرعية السلطة الميليشياوية الحاكمة.
يريد الصدر بناء الدولة في العراق عبر التغريدات والبلطجة والفتوة واستجداء العواطف والمشاعر، حيث لا يملك أي طريق آخر لمنع انحدار موقع تياره الاجتماعي،
بيد أن ما يهم عرابي “النظام الديمقراطي” هو حصر الشرعية في نسبة المشارِكة في الانتخابات حتى لو وصلت إلى 5 في المئة في مقابل وصول نسبة المقاطعة إلى 95 في المئة، فالمهم هو إجراء العملية الانتخابية، وما عداها ليس له أية قيمة حسب معيار ذلك النظام. بمعنى آخر إن صندوق الانتخابات هو الفيصل في هذا النظام بغض النظر عن نسبة المشاركة فيها وعلاوة على من يغلقه ومن يفتحه. وليس هذا فحسب، بل إن صفا من الأقلام المأجورة -التي تسوّق نفسها تارة بأنها من المحللين السياسيين، وتارة أخرى بتعريف نفسها بأنها من القادمين من مراكز الدراسات المتعددة- تشكل جوقة متناغمة بالعزف على لحن “الديمقراطية” الذي يخرج معظمه دائما وخاصة في الانتخابات الأخيرة بصوت نشاز وبعيد عن الوعي الذي اكتسبته الجماهير خصوصا بعد انتفاضة أكتوبر العظيمة. لكن المهم هو خلق وعي زائف في المجتمع عبر ذلك القصف المذكور لتسويق شعور الخطأ بعدم المشاركة في الانتخابات وسيادته على المجتمع وبالتالي شيوع عض أصابع الندم عند الجماهير لأنها قاطعت الانتخابات، وهو جزء من مساعي نفخ الروح في العملية السياسية وإضفاء الشرعية عليها وإعادة إنتاج انتخابات أخرى في المستقبل من أجل استمرار دوامة “النظام الديمقراطي” المخزي وعمليته السياسية التي لن تنتج عنه سوى تلك القوى القومية والطائفية المتعفنة والفاسدة.
إن ما نريد أنْ نشير إليه في هذا الشرح حول النظام الديمقراطي وارتباطه بالتيار الصدري، هو أن التعمية الإعلامية والسياسية على كل المشهد السياسي في العراق بخصوص الانتخابات الأخيرة و”النظام الديمقراطي” من شأنها حجب رؤية الواقع المر بشكل مخطط ومدروس عن الجماهير وعموم المجتمع، واقع ما وصلت إليه كل جماعات الإسلام السياسي في الدرك السفلي بما فيها التيار الصدري، سواء الولائي لإيران أو -كما يقول الولائيون- المنبطحون لأميركا والدول الإقليمية الأخرى. وعليه فإن زعيمه مقتدى الصدر يرى أن انحسار تياره بهذا الشكل الكبير يشكل ناقوس خطر ينذر بأفوله السياسي. وهذا يفسر استقتال الصدر وخياره في تشكيل الحكومة وأن يكون لاعبا كبيرا في تشكيلها، فهي مسألة مصيرية واستراتيجية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وفي الجانب الآخر، وإذا دققنا قليلا في بعض التغريدات والفعاليات الأخيرة على الأقل نجد أنه يعمل على الظهور بمظهر الخادم المطيع والورع والناصح والغيور الوطني وأخيراً الرياضي، وهي الصفات التي يوقع بها على تغريداته؛ فعلى سبيل المثال في تغريدة الصدر عن التجمع الكبير في الحفلة الغنائية للمطربة اللبنانية إليسا في بغداد، يرفض هذا التجمع ليس من باب أنه نوع من الفسق والفجور كما عودنا سلاطين الإسلام السياسي، والوقوف في وجه إقامة مثل تلك الحفلات مثلما حدث في محاولاتهم الفاشلة لإلغاء مهرجان بابل الأخير، بل علق الصدر وهو يدرك مكانة تياره الاجتماعي في مقابل فشل كل المحاولات لقلع جذور المدنية والتحضر في العراق، بأنه لا يقبل بهذا التجمع بسبب تفشي وباء كورونا، في حين أنه لم يقل كلمة واحدة، بل ولم يعلق على التجمعات التي تقام في أيام عاشوراء والمناسبات الدينية الأخرى. فهل هناك مناعة ربانية تحدث أو تنزل على المشاركين في تلك المناسبات ولا خوف عليهم من وباء كورونا؟
ولا يقف عند حدود تلك التغريدات، بل إن إظهاره على أنه يقوم بنفسه بتنظيف مدرسة وهو يمسك بمكنسة بيده ليس الغرض منه إلا دغدغة المشاعر العاطفية لدى جمهوره ومنع انخفاض منحنى تياره بشكل أكثر. في حين أن تنظيف المدارس وإزالة النفايات من المحلات السكنية والشوارع هما من واجبات البلدية، وجزء من تقديم الدولة خدمات لمواطنيها. بيد أن بناء الدولة عند الصدر لا يرتقي إلى تقديم الخدمات وليس من مصلحته أصلا تقديم الخدمات لأنه يمثل تيارا شعبويا، والخصيصة المركزية للتيار الشعبوي هي نشر الوعي الزائف عبر مخاطبة المشاعر والعواطف والتمحور حول الشعارات الوطنية الخالية من أية محتوى، أما في أيام القحط فيرفع رايات الدين والطائفة والأمة بدل مخاطبة العقل واعتماد المنطق وتقديم برنامج سياسي واضح المعالم. فالوزارات الخدمية التي استولى عليها التيار الصدري منذ تشكيل حكومة الجعفري عام 2005 لم تكن أفضل من بقية الوزارات في تنظيم عمليات السلب والنهب والفساد بكل أشكاله، هذا ناهيك عن استيلائه على الساحات الكبيرة وتحويلها إلى مرائب تدر عليه أموالا بدل تحويلها إلى حدائق عامة ومراكز خدمية تستفيد منها عامة الناس.
هناك كلمة لا بد منها؛ إن الكابوس المرعب الذي يثقل كاهل كل التيارات السياسية وخاصة التيار الصدري هو أن هناك انتفاضة أخرى على الأبواب،
ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، بل إن التيار الصدري يعمل بشكل حثيث على ترهيب المعارضين له، فهو يستخدم تكتيكا جديدا لمنع أي شكل من أشكال النقد الموجه إلى زعيمه عبر نشر فيديوهات للمعارضين بعد تعذيبهم وضربهم وهم يطلبون العفو والمغفرة من الصدر بشكل ذليل. ويساعد على اختطاف أولئك المعارضين أفراد من القوى الأمنية ينتمون إلى التيار الصدري ويستخدمون صفتهم الحكومية والتسهيلات الحكومية لاختطاف المعارضين. في حين تقف الرقابة الإلكترونية الحكومية متفرجة على تلك الفيديوهات، ولا تحرك ساكنا لإعلاء كلمة القانون والدولة التي يتحفنا به كل يوم السيد الكاظمي. هذا هو نمط الدولة التي يريد بناءها الصدر في العراق.
وعلى الصعيد الدعائي والإعلامي نجد تغريدات الصدر لا تنفك تنشط في هذا المجال، وآخر ذلك استدعاء علي علاوي وزير المالية إلى البرلمان لاستجوابه حول سبب تخفيض قيمة العملة المحلية التي أدت إلى انخفاض القيمة السوقية للمعاشات والرواتب بنسبة تصل إلى 50 في المئة. طبعا إن عملية الاستدعاء -وبغض النظر عن الطريقة التي يقوم بها الصدر مستخفّا بالحكومة وهيبتها، ومُظهرا نفسه لا كرجل سياسي بل كأحد عرابي المافيا أو شيوخ العشائر أو الإقطاعيين في زمن الأجيال الغابرة- ليست سوى إضافة تعمية جديدة وتستر على صانعي قرار تخفيض العملة والإقرار على الورقة البيضاء. وكلنا نعرف أن تخفيض العملة جرت الموافقة عليه في اجتماع جمع كل الكتل السياسية، ونال قرار تخفيض العملة والورقة البيضاء الإجماع بما في ذلك الكتلة الصدرية قبل التصويت عليه بالأغلبية المطلقة في البرلمان. لكن اليوم تعتبر عملية الاستدعاء تلك محاولة من الصدر لذر الرماد في العيون وانتزاع حفنة أخرى من العواطف والمشاعر التي يحتاجها تياره الشعبوي عبر الاستجداء.
أخيرا هناك كلمة لا بد منها؛ إن الكابوس المرعب الذي يثقل كاهل كل التيارات السياسية وخاصة التيار الصدري هو أن هناك انتفاضة أخرى على الأبواب، لأن الأرضية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أشعلت انتفاضة أكتوبر مازالت قائمة ولن تستطيع أية حكومة الرد على مطالب الجماهير، وكما قال لنا وزير مالية الكاظمي إن عام 2023 هو بدء عملية شد الأحزمة إلى حد قطع البطون، لأن العراق لن يستطيع تجاوز أزمته الاقتصادية ويجب تسريح عدد كبير من الموظفين والعمال، ناهيك عن إضافة 14 مليون عاطل عن العمل، وهو العدد الذي سيتضاعف العام المقبل. إن هذه الحقيقة تراها عيون كل الكتل السياسية التي تآمرت على انتفاضة أكتوبر سواء عبر عمليات القتل أو عبر الخداع السياسي والالتفاف عليها. وكانت العوامل المذكورة آنفاً من الفقر والفساد والظلم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وراء التحجيم الاجتماعي للإسلام السياسي.
هكذا يريد الصدر بناء الدولة في العراق عبر التغريدات والبلطجة والفتوة واستجداء العواطف والمشاعر، حيث لا يملك أي طريق آخر لمنع انحدار موقع تياره الاجتماعي. إنه يجيد ما فشل فيه دونالد ترامب الرئيس الأميركي السابق لإعادة انتخابه لولاية ثانية.
إن جميع القوى السياسية في العملية السياسية تدرك عمق الأزمة السياسية وعمق الهوة بينها وبين الجماهير، وتشعر بحرارة الجمر تحت رماد انتفاضة أكتوبر، بيد أن صراعها على السلطة التي تسهّل لها السرقة والنهب والفساد عن طريق تشكيل الحكومة الجديدة لا يمنحها فرصة الالتفات إلى الأرض المتحركة التي تقف عليها.