هل يرفض الفلسطينيون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم حقا؟ سؤال غرائبي بعد كل سنوات الكفاح وحشود الشهداء وملايين المشردين وطرق الآلام التي عُبدت بالآهات والكوارث التي لا يزال الفلسطينيون يتعرضون لها. لا يمكن إذًا القياس على كلام الرئيس محمود عباس الذي يرفض العودة بغزة إلى سابق عهدها إذا ما تسنى له ذلك. ولن يؤخذ كلام عباس بشكل جاد إلا إذا حدث فراغ سياسي في غزة. وذلك ما يمكن أن يحدث إذا ما انسحبت حركة المقاومة الإسلامية من الحياة السياسية أو إذا نجحت إسرائيل في القضاء عليها وهما أمران لن يحدثا في زمن مرئي.
يسبق أبومازن الأحداث أو أنه يمهد لها. فهو أكثر العارفين بخبايا ما يحدث في غزة سياسيا. فـ”حماس” التي تحكم غزة إنما تقاتل اليوم بشراسة دفاعا عن وجودها المستقل وهي غير راغبة في التحول إلى واحد من أجنحة منظمة التحرير السياسية وهي أيضا يائسة من السياسة التي تنتهجها سلطة رام الله. ذلك يأس يشاركها فيه الكثير من الفلسطينيين ممَن لا يلتقون مع خطها العقائدي. لذلك لن تتمكن السلطة من العودة إلى حكم غزة بوجود حماس. إعادة ضم غزة في هذه الحالة أشبه بإعادة احتلالها من قبل إسرائيل. عملية مكلفة لن تؤدي إلى نتائج إيجابية.
غزة ثقيلة على السلطة مثلما هي ثقيلة على إسرائيل. وفي جانب آخر فإن الحرب الأخيرة بكل تعقيداتها وتداعياتها على المستوى العالمي أنتجت موقفا عربيا صار من الصعب تخطيه والتراجع عنه من أجل البدء بمحادثات سلام على أنقاض مدينة وقبور ضحايا لم يكونا في الحد الأدنى من الفهم مشاركين في النزاع؛ لا في مغامرة حماس ولا في جنون إسرائيل. وهنا لا أقصد المحادثات مع إسرائيل وحدها، بل وأيضا الطرف الفلسطيني الذي سيرفع شعار إعمار غزة مثلما كان يفعل في المرات السابقة. فالحرب هذه المرة مختلفة، لا بسبب الموقف الرسمي الغربي المصطف وراء الهمجية الإسرائيلية فحسب، بل وأيضا بسبب الصفة الاعتبارية التي اكتسبتها إيران بعد أن كشفت حركة حماس بشكل جلي عن ارتباطها العقائدي بها. وبغض النظر عن النفاق الغربي فإن إيران ليست بريئة من الضلوع في الحرب الأخيرة كما أظهرتها وسائل الإعلام الإيرانية بناء على تصريحات للمرشد الأعلى التي لا يمكن اعتبارها ميزانا للحقيقة.
المؤكد حتى هذه اللحظة أن القوى التي يمكن أن تؤثر على إسرائيل لا ترغب في إيقاف جنونها. ولكن من المؤكد أيضا أن تلك القوى تعرف أن العقل الذي فقدته إسرائيل لم يكن على بينة فيما إذا كان مخطط حماس سيقودها إلى مستنقع لن تخرج منه أم أنه سيهديها إلى سبل الخلاص من مصدر إزعاج دائم. ولكن إسرائيل من جانبها لعبت دورا مريبا حين أضعفت السلطة الفلسطينية من غير أن تبدي أي نوع من الاحترام للاتحاد الأوروبي الذي يرعاها. ليست إسرائيل بريئة من دور خبيث لعبته من أجل ألّا تكون هناك جبهة فلسطينية موحدة تقف أمامها. لذلك ظنت أن انشقاق حماس الذي وضع مليوني فلسطيني خارج سيطرة السلطة هو أمر يصب في مصلحتها. فهي لا ترغب في حل نهائي انطلاقا من كونها لا تحترم القوانين الدولية التي نصت على حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة.
السؤال الذي يمكن اعتباره خياليا حتى اللحظة هو “ماذا يحدث لو انهارت حركة حماس في ظرف تصر إسرائيل فيه على الذهاب بالحرب إلى أقصاها؟”، لا يتعلق السؤال بمَن يحكم غزة، إسرائيل والسلطة غير راغبتين في ذلك، بل بمَن سيدير شؤون مليوني إنسان، فقد أغلبهم بيوتهم التي هدمها القصف وانقطعت مصادر رزقهم ولم يعد لديهم ما يسند أسباب عيشهم من غذاء ودواء وهو ما يضع الحياة في مستوياتها الدنيا. حشد من البشر الهائمين يقف على حدود إسرائيل لا تزال هويتهم تفرض انتماءهم إلى السلطة الفلسطينية التي اعترف العالم ذات يوم بوجودها. بغض النظر عن الموقف من الصراع فإن سؤال الضحايا سيكون ضاغطا. ولكن على مَن؟
هناك مَن فكر في إدارة دولية. في المقابل هناك مَن اعتقد أن تلك الفكرة هدية مسمومة. ولكن غزة فقدت كل مصادر عيشها بعد أن صارت تعيش على المساعدات. غير أنّ حياة حقيقية لا يمكن أن تُقام على المساعدات. كان الحصار الإسرائيلي أسوأ أسلحة الحرب وأكثرها رداءة. لقد وضعها ذلك الحصار أمام شعب يرغب في زوالها. لذلك يمكن اعتبار الإدارة الدولية نوعا من الحماية لإسرائيل.